كتاب : 16 معجزات ودلائل نبوته |
مُعْجِزَاتُ
وَدَلاَئِلُ نُبُوَّةِ خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صلي الله عليه وسلم
تَمْهِيد:
أَجْرَى اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـ عَلَى يَدَيْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ وَالدَّلاَئِلِ الْقَاطِعَاتِ وَالْحُجَجِ الْوَاضِحَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ رُسُلُ اللهِ، وَكَيْ تَقُومَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى النَّاسِ فَلاَ يَبْقَى لأَحَدٍ عُذْرٌ فِي عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ. فَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ}(1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الدِّلاَلَةِ وَالْعَلاَمَةِ
أَنَّ الْمُعْجِزَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّحَدِّي وَأَنْ يَكُونَ الْمُتَحَدَّى
بِهِ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ. أَمَّا
الدَّلاَئِلُ وَالعَلاَمَاتُ فَتَقَعُ دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الأَنْبِيَاءِ
وَالرُّسُلِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَحَدِّ وَسُمِّيَتِ الْمُعْجِزَةُ كَذَلِكَ
لِعَجْزِ الْخَلْقِ عَنْ مُعَارَضَتِهَا وَالإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا.
وَالْمُعْجِزَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
- ضَرْبٌ هُوَ مِنْ نَوْعِ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَعَجَزُوا عَنْهُ فَتَعْجِيزُهُمْ
عَنْهُ فِعْلٌ للهِ دَلَّ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِ كَتَحَدِّي الْيَهُودِ أَنْ
يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ.
- وَضَرْبٌ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِتْيَانِ
بِمِثْلِهِ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، مِمَّا لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَحَدٌ
إِلاَّ اللهُ تَعَالَى فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ مِنْ فِعْلِ اللهِ
تَعَالَى وَتَحَدِّي مَنْ يُكَذِّبُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ تَعْجِيزًا
لَهُ(2).
__________
(1) سورة الحديد : من الآية رقم(25).
(2) انظر الشفا للقاضي عياض (1/491، 492)بتصرف.
(1/1)
وَمُعْجِزَاتُ
رَسُولِ اللهِ J الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ تَشْمَلُ كِلاَ النَّوْعَيْنِ.
فَهُوَ J أَكْثَرُ الرُّسُلِ مُعْجِزَةً وَأَبْهَرُهُمْ آيَةً
وَأَظْهَرُهُمْ بُرْهَانًا فَلَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا لاَ يُحَدُّ وَلاَ
يُعَدُّ، وَقَدْ أُلِّفَتْ فِي مُعْجِزَاتِهِ J الْمُؤَلَّفَاتُ
الْكَثِيرَةُ وَتَنَاوَلَهَا الْعُلَمَاءُ بِالشِّرْحِ وَالْبَيَانِ. مِمَّنِ
اعْتَنَى بِجَمْعِهَا مِنَ الأَئِمَّةِ أَبُو نُعَيْمِ الأَصْبَهَانِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ.
وَمُعْجِزَاتُهُ J، مِنْهَا مَا نُقِلَ إِلَيْنَا نَقْلاً مُتَوَاتِرًا مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ
تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ الأُمَّةِ.
وَمِنْهَا مَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الضَّرُورَةِ وَالْقَطْعِ وَهُوَ عَلَى
نَوْعَيْنِ:
- نَوْعٌ مُشْتَهَرٌ مُنْتَشِرٌ، رَوَاهُ الْعَدَدُ وَشَاعَ الْخَبَرُ بِهِ عِنْدَ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِالآثَارِ، وَنَقَلَتْهُ السِّيَرُ وَالأَخْبَارُ، كَنَبْعِ
الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ الشَّرِيفَةِ J، وَتَكْثِيرِهِ
الطَّعَامَ.
- وَنَوْعٌ مِنْهُ اخْتُصَّ بِهِ الْوَاحِدُ والاثْنَانِ وَرَوَاهُ الْعَدَدُ
الْيَسِيرُ وَلَمْ يَشْتَهِرِ اشْتِهَارَ غَيْرِهِ لَكِنَّهُ إِذَا جُمِعَ إِلَى
مِثْلِهِ اتَّفَقَا فِي المَعْنَى وَاجْتَمَعَا عَلَى الإِتْيَانَ بِالْمُعْجِزِ
(1) .
وَبَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ الْمُوجَزِ، نُورِدُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى،
جُمْلَةً مِنْ مُعْجِزَاتِ وَدَلاَئِلِ نُبُوَّةِ سَيِّدِ الأَوَّلِينِ
وَالآخِرِينَ J مِمَّا سَانَدَهَا الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ:
الْمُعْجِزَةُ الْكُبْرَى:
__________
(1) المرجع السابق (1/495).
(1/2)
أَعْطَى
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ
مُعْجِزَةً خَاصَّةً بِهِ لَمْ يُعْطَهَا بِعَيْنِهَا غَيْرُهُ تَحَدَّى بِهَا
قَوْمَهُ، وَكَانَتْ مُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ تَقَعُ مُنَاسِبَةً لِحَالِ
قَوْمِهِ وَأَهْلِ زَمَانِهِ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ السِّحْرَ
وَتَعْْظِيمَ السَّحَرَةِ، بَعَثَهُ اللهُ بِمُعْجِزَةٍ بَهَرَتِ الأَبْصَارَ،
وَحَيَّرَتْ كُلَّ سَحَّارٍ، فَلَمَّا اسْتَيْقَنُوا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ
الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ انْقَادُوا لِلإِسْلاَمِ وَصَارُوا مِنْ عِبَادِ اللهِ
الأَبْرَارِ.
وَأَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَبُعِثَ فِي زَمَنِ الأَطِبَّاءِ
وَأَصْحَابِ عِلْمِ الطَّبِيعَةِ، فَجَاءَهُمْ مِنَ الآيَاتِ بِمَا لاَ سَبِيلَ
لأَحَدٍ إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُؤَيَّدًا مِنَ الَّذِي شَرَعَ
الشَّرِيعَةَ، فَمِنْ أَيْنَ لِلطَّبِيبِ قُدْرَةٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْجَمَادِ،
وَبَعْثِ مَنْ هُوَ فِي قَبْرِهِ رَهِينٌ إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، أَوْ عَلَى
مُدَاوَاةِ الأَكْمَهِ وَالأَبْرَصِ.
وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا J، بُعِثَ فِي زَمَانِ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ وتَجَارِيدِ
الشُّعَرَاءِ، فَأَتَاهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،
فَاتَّهَمَهُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُ اخْتَلَقَهُ وَافْتَرَاهُ مِنْ عِنْدِهِ
فَتَحَدَّاهُمْ وَدَعَاهُمْ أَنْ يُعَارِضُوهُ وَيَأْتُوا بِمِثْلِهِ
وَلِيَسْتَعِينُوا بِمَنْ شَاءُوا فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا
الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيرًا}(1).
__________
(1) سورة الإسراء : آية رقم (88).
(1/3)
وَكَمَا
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَّ يُؤْمِنُونَ *
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}(1) .
ثُمَّ تَقَاصَرَ مَعَهُمْ إِلَى عَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ، فَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ0{أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(2) .
ثُمَّ تَنَازَلَ إِلَى سُورَةٍ فَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ
دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(3) .
وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِي مَدَنِيَّةٌ أَعَادَ التَّحَدِّي
بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ
أَبَدًا لاَ فِي الْحَالِ وَلاَ فِي الْمَآلِ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ
فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِّثْلِهِ
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* فَإِنْ
لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}(4) .
__________
(1) سورة الطور: آية رقم (33، 34).
(2) سورة هود: آية رقم (13).
(3) سورة يونس :آية رقم (38).
(4) سورة البقرة : آية رقم (23، 24).
(1/4)
وَهَكَذَا
وَقَعَ، فَإِنَّهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللهِ J وَإِلَى زَمَانِنَا
هَذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِنَظِيرِهِ وَلاَ نَظِيرِ سُورَةٍ
مِنْهُ، وَهَذَا لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ أَبَدًا، فَإِنَّهُ كَلاَمُ رَبِّ
الْعَالَمِينَ الَّذِي لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ لاَ فِي ذَاتِهِ وَلاَ
فِي صِفَاتِهِ وَلاَ فِي أَفْعَالِهِ، فَأَنَّى يُشْبِهُ كَلاَمُ الْمَخْلُوقِينَ
كَلاَمَ الْخَالِقِ؟
وَقَد انْطَوَى كِتَابُ اللهِ الْعَزِيزُ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنْ وِجُوهِ
الإِعْجَازِ:
ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ مُعْجِزٌ فِي بِنَائِهِ التَّعْبِيرِيِّ
وَتَنْسِيقِهِ الْفَنِّيِّ بِاسْتِقَامَتِهِ عَلَى خَصَائِصَ وَاحِدَةٍ فِي
مُسْتَوًى وَاحِدٍ لاَ يَخْتَلِفُ وَلاَ يَتَفَاوَتُ وَلاَ تَتَخَلَّفُ
خَصَائِصُهُ.
مُعْجِزٌ فِي بِنَائِهِ الْفِكْرِيِّ وَتَنَاسُقِ أَجْزَائِهِ وَتَكَامُلِهَا،
فَلاَ فَلْتَةَ فِيهِ وَلاَ مُصَادَفَةَ، كُلُّ تَوْجِيهَاتِهِ وَتَشْرِيعَاتِهِ،
تَلْتَقِي وَتَتَنَاسَبُ وَتَتَكَامَلُ وَتُحِيطُ بِالْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ
وَتَسْتَوعِبُهَا وَتُلَبِّيهَا وَتَدْفَعُهَا دُونَ أَنْ تَتَعَارَضَ جُزْئِيَّةٌ
وَاحِدَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْمِنْهَاجِ الشَّامِلِ الضَّخْمِ مَعَ جُزْئِيَّةٍ
أُخْرَى، وَدُونَ أَنْ تَصْطَدِمَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِالْفِطْرَةِ
الإِنْسَانِيَّةِ أَوْ تَقْتَصِرَ عَنْ تَلْبِيَتِهَا، وَكُلُّهَا مَشْدُودَةٌ
إِلَى مِحْوَرٍ وَإِلَى عُرْوَةٍ وَاحِدَةٍ فِي اتِّسَاقٍ لاَ يُمْكِنُ أَنْ
تَفْطنَ إِلَيْهِ خِبْرَةُ الإِنْسَانِ الْمَحْدُودَةُ.
(1/5)
مُعْجِزٌ
فِي يُسْرِ مَدَاخِلِهِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ وَلَمْسِ مَفَاتِيحِهَا
وَفَتْحِ مَغَالِيقِهَا وَاسْتِجَاشَةِ مَوَاضِعِ التَّأَثُّرِ وَالاِسْتِجَابَةِ
فِيهَا(1).
وَقَدْ سَرَدَ هِبَةُ الدِّينِ الْحُسَيْنِيُّ الشَّهْرِسْتَانِيُّ الْمَزَايَا
الإِجْمَالِيَّةَ لِلْقُرْآنِ وَهِيَ:
1فَصَاحَةُ أَلْفَاظِهِ الْجَامِعَةِ لِكُلِّ شَرَائِعِهَا.
2بَلاَغَتُهُ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ أَيْ مُوَافَقَةُ الْكَلاَمِ لِمُقْتَضَى
الْحَالِ وَمُنَاسَبَاتِ الْمَقَامِ أَوْ بَلاَغَتُهُ الذَّوْقِيَّةُ
الْمَعْنَوِيَّةُ.
3عُرُوبَةُ الْعِبَارَاتِ الْمُمَثَّلَةُ لِسَذَاجَةِ الْبَدَاوَةِ مَعَ
اشْتِمَالِهَا عَلَى بَسَائِطِ الْحَضَارَةِ.
4تَوافُرُ الْمَحَاسِنِ الطَّبِيعِيَّةِ فَوْقَ الْمَحَاسِنِ الْبَدِيعِيَّةِ.
5إِيجَازٌ بَالِغٌ مَعَ الإِعْجَازِ بِدُونِ أَنْ يُخِلَّ بِالْمَقْصُودِ.
6إِطْنَابٌ غَيْرُ مُمِلّ فِي مُكَرَّرَاتِهِ.
7سُمُوُّ الْمَعَانِي وَعُلُوُّ الْمَرْمَى فِي قَصْدِ الْكَمَالِ الأَسْمَى.
8طَلاَوَةُ أَسَالِيبِهِ الْفِطْرِيَّةِ، وَمَقَاطِعِهِ الْمُبْهِجَةِ،
وَأَوْزَانِهِ الْمُتَنَوِّعَةِ.
9فَوَاصِلُهُ الْحُسْنَى وَأَسْمَاعُهُ الْفِطْرِيَّةُ.
0أَنْبَاؤُهُ الْغَيْبِيَّةُ، وَإِخْبَارُهُ عَنْ كَوَامِنِ الزَّمَانِ،
وَخَفَايَا الأُمُورِ.
1أَسْرَارٌ عِلْمِيَّةٌ لَمْ تَهْتَدِ الْعُقُولُ إِلَيْهَا بَعْدَ عَصْرِ
الْقُرْآنِ إِلاَّ بِمَعُونَةِ الأَدَوَاتِ الدَّقِيقَةِ، وَالآلَاتِ الرَّقِيقَةِ
الْمُسْتَحْدَثَةِ.
__________
(1) قال درمنغم في كتابه"حياة محمد" إن جمال القرآن الأدبي الفائق وقوته
النورانية لا يزالنا إلى اليوم لغزًا لم يحل وهما يضعان من يتلوه - ولو كان أقل
الناس تقوى - في حالة خاصة من الحماسة (عن كتاب محمد رسول الله لبشرى زخاري
ميخائيل ص 34).
(1/6)
2غَوَامِضُ
أَحْوَالِ الْمُجْتَمَعِ، وَآدَابٌ أَخْلاَقِيَّةٌ تُهَذِّبُ الأَفْرَادَ
وَتُصْلِحُ شُؤُونَ الْعَائِلاَتِ.
3قَوَانِينُ حَكِيمَةٌ فِي فِقْهٍ تَشْرِيعِيٍّ، فَوْقَ مَا فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنْجِيلِ، وَكُتُبِ الشَّرَائِعِ الأُخْرَى.
4سَلاَمَتُهُ عَنِ التَّعَارُضِ، وَالتَّنَاقُضِ، وَالاخْتِلاَفِ.
5خُلُوصُهُ مِنْ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ، وَتَنَافِي الْمَقَاصِدِ.
6ظُهُورُهُ عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَمْ يَعْرِفِ الدِّرَاسَةَ، وَلاَ أَلِفَ
مُحَاضَرَةَ الْعُلَمَاءِ، وَلاَ جَابَ الْمَمَالِكَ سَائِحًا مُسْتَكْمِلاً.
7طَرَاوَتُهُ(1) فِي كُلِّ زَمَانٍ، كَوْنُهُ طَرِيًّا كُلَّمَا تُلِيَ
وَأَيْنَمَا تُلِيَ.
8اشْتِمَالُهُ عَلَى السَّهْلِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي يُعَدُّ مِلاَكَ
الإِعْجَازِ، وَالتَّفَوُّقِ النِّهَائِيِّ.
9قُوَّةُ عِبَارَتِهِ لِتَحَمُّلِ الْوُجُوهِ، وَتَشَابُهِ الْمَعَانِي.
0قِصَصُهُ الْحُلْوَةُ، وَكُشُوفُهُ التَّارِيخِيَّةُ مِنْ حَوَادِثِ الْقُرُونِ
الْخَالِيَةِ.
1أَمْثَالُهُ الْحُسْنَى الَّتِي تَجْعَلُ الْمَعْقُولَ مَحْسُوسًا، وَتَجْعَلُ
الْغَائِبَ عَنِ الذِّهْنِ حَاضِرًا لَدَيْهِ.
2مَعَارِفُهُ الإِلهِيَّةُ كَأَحْسَنِ كِتَابٍ فِي عِلْمِ اللاَّهُوتِ، وَكَشْفِ
أَسْرَارِ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، وَأَوْسَعِ سِفْرٍ مِنْ مَرَاحِلِ الْمَبْدَأ
وَالْمَعَادِ.
3خِطَابَاتُهُ الْبَدِيعِيَّةُ، وَطُرُقُ إِقْنَاعِهِ الْفَذَّةُ.
__________
(1) قال ديزيريه بلانشيه في كتابه "دراسات في تاريخ الأديان" في وصف
القرآن:"كفى هذا القرآن مجدًا وجلالاً أن الأربعة عشر قرنًا التي مرت عليه لم
تستطع أن تجفف أسلوبه بل لا يزال غَضًّا كأن عهده بالحياة أمس (راجع كتاب محمد
رسول الله هكذا بشرت الأناجيل لبشرى زخاري ميخائيل ص 35) .
(1/7)
4تَعَالِيمُهُ
الْعَسْكَرِيَّةُ، وَمَنَاهِجُهُ فِي سَبِيلِ الصُّلْحِ، وَفُنُونِ الْحَرْبِ.
5سَلاَمَتُهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالأَبَاطِيلِ، الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا
إِجْهَازُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا كُلَّمَا تَكَامَلَتْ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ.
6قُوَّةُ الْحُجَّةِ، وَتَفَوُّقُ الْمَنْطِقِ.
7اشْتِمَالُهُ عَلَى الرُّمُوزِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَدَهْشَةُ الْفِكْرِ
حَوْلَهَا وَحَوْلَ غَيْرِهَا.
8جِذَابَاتُهُ الرُّوحِيَّةُ الْخَلاَّبَةُ لِلأَلْبَابِ، السَّاحِرَةُ
لِلْعُقُولِ، الْفَتَّانَةُ لِلنُّفُوسِ.
وَلَعَلَّ الأَصْوَبَ أَنْ يُضَافَ إِلَى ذَلِكَ تَضَمُّنُهُ الأُسَسَ لِشَرِيعَةٍ
إِنْسَانِيَّةٍ صَالِحَةٍ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ(1) .
هَذَا وَإِنَّ وُجُوهَ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أُلِّفَتْ فِيهَا
كُتُبٌ كَثِيرَةٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّهْرِسْتَانِيُّ
مَا يَلِي:
1تَرْكُ الْمُعَارَضَةِ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ، مِمَّا
يُؤَكِّدُ عَجْزَ الْبَشَرِ عَنِ الإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
2اتِّسَاقُ الْقُرْآنِ فِي أَغْرَاضِهِ وَمَعَانِيهِ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ
الَّتِي اسْتَغْرَقَهَا فِي تَجَمُّعِهِ، فَخَوَاتِيمُهُ بَعْدَ رُبْعِ قَرْنٍ
جَاءَتْ مُطَابِقَةً مُتَسَاوِقَةً لِفَوَاتِحِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا،
وَيُكَمِّلُهُ كَأَنَّهُ نَفَسٌ وَاحِدٌ.
__________
(1) عن كتاب (نظرات في القرآن) لمحمد الغزالي.
قلت ومثال واحد على ذلك قوله تعالى [ فمن شهد منكم الشهر فليصمه] ولم يقل فصوموه،
كما لم يحدد مواقيت الصلاة لاختلاف المواقع في الكرة الأرضية، وهذا ما يجعله
موافقًا لكل زمان ومكان.
(1/8)
3سُهُولَةُ
حِفْظِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ}(1) . فَهُوَ مُيَسَّرٌ عَلَى جَمِيعِ الأَلْسِنَةِ
وَمَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ.
4حُسْنُ التَّخَلُّصِ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى أُخْرَى وَالْخُرُوجُ مِنْ بَابٍ إِلَى
غَيْرِهِ.
5إِطْنَابُهُ فِي خِطَابِ الْيَهُودِ، وَإِيجَازُهُ فِي خِطَابِ الْعَرَبِ،
لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فَهْمًا وَبَلاَغَةً.
6مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ، مِمَّا كَانَ لاَ
يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إِلاَّ الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ
الْكِتَابِ.
7وُجُودُ كَلِمَاتٍ فِي جُمَلٍ لاَ يَسُدُّ مَسَدَّهَا غَيْرُهَا مِثْلُ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي}(2) فَلَيْسَ بِمَقْدُورِ أَحَدٍ أَنْ
يَأْتِيَ بِكَلِمَةٍ تَسُدُّ مَسَدَّهَا.
8نَزَاهَتُهُ فِي التَّعْبِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ
وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}(3) وَقَوْلِهِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}(4)
وَقَوْلِهِ: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}(5) وَقَوْلِهِ: {أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ}(6) .
9خُلُوصُ أَلْفَاظِ الْهِجَاءِ فِيهِ مِنَ الْفُحْشِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ
عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ}(7) .
0التَّدَرُّجُ فِي الأَحْكَامِ.
__________
(1) سورة القمر ، آية (17).
(2) سورة طه : آية (18).
(3) سورة البقرة : آية (187).
(4) سورة البقرة ، آية (223).
(5) سورة النساء ، آية (21).
(6) سورة النساء ، آية (43).
(7) سورة النور، آية (50).
(1/9)
1مَا
تَضَمَّنَهُ مِنَ الأَخْبَارِ عَنِ الضَّمَائِرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا
جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ}(1) وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا
مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا}(2) وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ}(3) وَقَوْلِهِ: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ}(4) .
2جَمْعُهُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَزَالَةِ وَالْعُذُوبَةِ، وَهُمَا
كَالمُتَضَادَّيْنِ لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي كَلاَمِ الْبَشَرِ غَالِبًا.
3اقْتِرَانُ مَعَانِيهِ الْمُتَغَايِرَةِ فِي السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ،
فَيَخْرُجُ فِي السُّورَةِ مِنْ وَعْدٍ إِلَى وَعِيدٍ، وَمِنْ تَرْغِيبٍ إِلَى
تَرْهِيبٍ، وَمِنْ مَاضٍ إِلَى مُسْتَقْبَلٍ، وَمِنْ قَصَصٍ إِلَى مَثَلٍ، وَمَنْ
حِكْمَةٍ إِلَى جَدَلٍ، فَلاَ يَتَنَافَرُ، وَهِيَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْكَلاَمِ
مُتَنَافِرَةٌ.
4لاَ يَخْرُجُ عَنْ أُسْلُوبِهِ وَلاَ يَزُولُ عَنِ اعْتِدَالِهِ باخْتِلاَفِ
آيَاتِهِ فِي الطُّولِ وَالقِصَرِ.
5آيٌ وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْمٍ فِي قَضَايَا وَإِعْلاَمِهِمْ أَنَّهُمْ لاَ
يَفْعَلُونَهَا فَمَا فَعَلُوا وَلاَ قَدَرُوا، فَالإِخْبَارُ بِالْعَجْزِ عَنِ
الإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةٌ لِلْقُرْآنِ.
__________
(1) سورة المجادلة ، آية (8).
(2) سورة آل عمران ، آية (154).
(3) سورة النساء ،آية (46).
(4) سورة الأنفال ، آية (7).
(1/10)
6قَارِئُهُ
لاَ يَمَلُّهُ، وَساَمِعُهُ لاَ يَمُجُّهُ، بَلِ الإِكْبَابُ عَلَى تِلاَوَتِهِ
يَزِيدُهُ حَلاَوَةً، وَتَرْدِيدُهُ يُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةً، وَغَيْرُهُ مِنَ
الْكَلاَمِ يُعَادَى إِذَا أُعِيدَ، وَيُمَلُّ عَلَى التَّرْدِيدِ.
7كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لاَ يُعْدَمُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا لِتَكَفُّلِ
اللهِ بِحِفْظِهِ(1) .
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ(2):
إِنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَةِ هَذَا الْقُرْآنِ، بَلْ عَنْ عَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ، بَلْ عَنْ سُورَةٍ مِنْهُ، وَإِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ
ذَلِكَ أَبَدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ
تَفْعَلُوا}(3) أَيْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فِي الْمَاضِي، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا تَحَدٍّ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ
مُعَارَضَتُهُمْ لَهُ فِي الْحَالِ وَلاَ فِي الْمَآلِ. وَمِثْلُ هَذَا
التَّحَدِّي إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ وَاثِقٍ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ لاَ يُمْكِنُ
لِلْبَشَرِ مُعَارَضَتُهُ، وَلاَ الإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ
مُتَقَوِّلٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَخَافَ أَنْْ يُعَارَضَ، فَيَفْتَضِحَ
وَيَعُودَ عَلَيْهِ نَقِيضُ مَا قَصَدَ مِنْ مُتَابَعَةِ النَّاسِ لَهُ.
__________
(1) لقد جمع المؤلف حفظه الله كتابًا ضخمًا في علوم القرآن وفنونه، أعانه الله
علىإتمامه.
(2) البداية والنهاية (6/65-66).
(3) سورة البقرة ، آية (24).
(1/11)
وَمَعْلُومٌ
لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أَنَّ مُحَمَّدًا J مِنْ أَعْقَلِ
خَلْقِ اللهِ، بَلْ أَعْقَلُهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ عَلَى الإِطْلاَقِ فِي الأَمْرِ
نَفْسِهِ، فَمَا كَانَ لِيُقْدِمَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ إِلاَّ وَهُوَ عَالِمٌ
بِأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ وَهَكَذَا وَقَعَ، فَإِنَّهُ مِنْ لَدُنْ
رَسُولِ اللهِ J وَإِلَى زَمَانِنَا هَذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ
بِنَظِيرِهِ وَلاَ نَظِيرِ سُورَةٍ مِنْهُ، وَهَذَا لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ أَبَدًا،
فَإِنَّهُ كَلاَمُ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ
خَلْقِهِ، لاَ فِي ذَاتِهِ، وَلاَ فِي صِفَاتِهِ، وَلاَ فِي أَفْعَالِهِ، فَأَنَّى
يُشْبِهُ كَلاَمُ الْمَخْلُوقِينَ كَلاَمَ الْخَالِقِ؟.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ
فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: حُسْنُ تَأْلِيفِهِ وَالْتِئَامِ كَلِمِهِ مَعَ الإِيجَازِ
وَالْبَلاَغَةِ.
ثَانِيهَا: صُوَرةُ سِيَاقِهِ وَأُسْلُوبِهِ الْمُخَالِفِ لأَسَالِيبِ كَلاَمِ
أَهْلِ الْبَلاَغَةِ مِنَ الْعَرَبِ نَظْمًا وَنَثْرًا حَتَّى حَارَتْ فِيهِ
عُقُولُهُمْ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِثْلِهِ مَعَ
تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ وَتَقْرِيعِهِ لَهُمْ عَلَى
الْعَجْزِ عَنْهُ.
ثَالِثُهَا: مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الإِخْبَارِ عَمَّا مَضَى مِنْ أَحْوَالِ
الأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالشَّرَائِعِ الدَّاثِرَةِ مِمَّا كَانَ لاَ يَعْلَمُ
مِنْهُ بَعْضَهُ إِلاَّ النَّادِرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
(1/12)
رَابِعُهَا:
الإِخْبَارُ عَمَّا سَيَأْتِي مِنَ الْكَوَائِنِ الَّتِي وَقَعَ بَعْضُهَا فِي
الْعَصْرِ النَّبَوِيِّ وَبَعْضُهَا بَعْدَهُ. وَمِنْ غَيْرِ هَذِهِ الأَرْبَعَةِ
آيَاتٌ وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْمٍ فِي قَضَايَا أَنَّهُمْ لاَ يَفْعَلُونَهَا
فَعَجَزُوا عَنْهَا مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، كَتَمَنِّي
الْيَهُودِ الْمَوْتَ، وَمِنْهَا الرَّوْعَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لِسَامِعِهِ، وَمِنْهَا
أَنَّ قَارِئَهُ لاَ يَمَلُّ مِنْ تَرْدَادِهِ وَسَامِعَهُ لاَ يَمُجُّهُ وَلاَ
يَزْدَادُ بِكَثْرَةِ التِّكْرَارِ إِلاَّ طَرَاوَةً وَلَذَاذَةً.
وَمِنْهَا أَنَّهُ آيَةٌ بَاقِيَةٌ لاَ تُعْدَمُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا،
وَمِنْهَا جَمْعُهُ لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهَا وَلاَ
تَنْتَهِي فَوَائِدُهَا. أ.هـ مُلَخَّصًا مِنْ كَلاَمِ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ(1) .
الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ:
__________
(1) انظر فتح الباري(8/623،624).
(1/13)
عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ J قَالَ [أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ (وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ- قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ. قَالَ ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ. فَقَالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَن مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ. فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ- فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَن مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَن مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ J إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ. فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ
(1/14)
عُرِجَ
بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ
السَّلاَمُ- قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَن مَعَكَ؟ قَالَ
مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ
لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. قَالَ اللهُ ـ
عَزَّ وَجَلَّ ـ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}(1). ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى
السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ:
جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَن مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟
قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ J. فَرَحَّبَ وَدَعَا
لِي بِخَيْرٍ.- ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فاسْتَفْتَحَ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ وَمَن
مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ
إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى J. فَرَحَّبَ وَدَعَا
لِي بِخَيْرٍ- ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فاسْتَفْتَحَ
جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَن مَعَكَ؟ قَالَ
مُحَمَّدٌ J قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ
فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ J، مُسْنِدًا
ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ- وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ
سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ - ثُمَّ ذُهِبَ بِي إِلَى
سِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ- وَإِذَا
ثَمَرُهَا كَالْقِلاَلِ قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ
تَغَيَّرَتْ - فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ
__________
(1) سورة مريم ،آية(57).
(1/15)
يَنْعَتَهَا
مِنْ حُسْنِهَا - فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى - فَفَرَضَ عَلَيَّ
خَمْسِينَ صَلاَةً فِي كُلِّ يَوْمِ وَلَيْلَةٍ - فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى J، فَقَالَ: مَا
فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلاَةً: قَالَ: ارْجِعْ إِلَى
رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ،
فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ - قَالَ: فَرَجَعْتُ
إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَارَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي. فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا،
فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا. قَالَ. إِنَّ أُمَّتَكَ
لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ - قَالَ:
فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلاَمُ حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ
كُلَّ يَوْمِ وَلَيْلَةٍ - لِكُلِّ صَلاَةٍ عَشْرٌ. فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاَةً-
وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ
عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا
لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً- قَالَ:
فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى J فَأَخْبَرْتُهُ -
فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J، فَقُلْتُ: قَدْ
رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ(1) .
انْشِقَاقُ الْقَمَرِ:
__________
(1) رواه مسلم (162) في الإيمان: باب الإسراء.
(1/16)
رَوَى
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهْ
عَنْهُ-؛ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ J أَنْ يُرِيَهُمْ
آيَةً، فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شَقَّتَيْنِ، حَتَّى رَأَوْا حِرَاءَ
بَيْنَهُمَا](1) .
فَكَانَ هَذَا الانْشِقَاقُ - كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ - آيَةً عَظِيمَةً لاَ
يَكَادُ يَعْدِلُهَا شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ الأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَهَرَ
فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ خَارِجًا مِنْ جُمْلَةِ طِبَاعِ مَا فِي هَذَا
الْعَالَمِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الطَّبَائِعِ، فَلَيْسَ مِمَّا يُطْمَعُ فِي
الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِحِيلَةٍ، فَلِذَلِكَ صَارَ الْبُرْهَانُ بِهِ أَظْهَرَ(2) .
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ،
فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ *
وَإِن يَرَوْا أَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ
مِنْ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ
النُّذُرُ}(3) .
وَنَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ
قَدْ وَقَعَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ J، وَأَنَّهُ كَانَ
إِحْدَى الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ. وَإِنَّ الأَحَادِيثَ الَّتِي وَرَدَتْ
بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ.
__________
(1) رواه البخاري. انظر الفتح 7(3868). ورواه مسلم برقم (2802).
(2) انظر فتح الباري (7/224).
(3) سورة القمر : آية رقم (1-5).
(1/17)
وَمَعَ
عِظَمِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ الْمُعَانِدِينَ لَمْ
يُصَدِّقُوا وَلَمْ يُذْعِنُوا، بَلْ اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ،
وَقَالُوا سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَئِنْ كَانَ سَحَرَنَا مَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، فَسَأَلُوا مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ
مِنَ الْمُسَافِرِينَ فَأَخْبَرُوهُمْ بِنَظِيرِ مَا شَاهَدُوهُ فَعَلِمُوا
صِحَّةَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنُوهُ.
تَكْثِيرُهُ الْمَاءَ وَنَبْعُهُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ الشَّرِيفَةِ J:
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: قِصَّةُ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ
أَصَابِعِهِ J، تَكَرَّرَتْ مِنْهُ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ فِي مَشَاهِدَ
عَظِيمَةٍ، وَوَرَدَتْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، يُفِيدُ مَجْمُوعُهَا الْعِلْمَ
الْقَطْعِيَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ وَلَمْ يُسْمَعْ
بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ عَنْ غَيْرِ نَبِيِّنَا J، حَيْثُ نَبَعَ
الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ عَظْمِهِ وَعَصَبِهِ وَلَحْمِهِ وَدَمِهِ](1) .
وَمِنْ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الَّتِي حَدَثَ بِهَا تَكْثِيرُ الْمَاءِ وَنَبْعُهُ
مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ نَبِيِّنَا J:
__________
(1) انظر فتح الباري (6/676،677).
(1/18)
-
مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا-، قَالَ: [عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ J بَيْنَ يَدَيْهِ
رِكْوَةٌ(1)، فَتَوَضَّأَ فَجَهَشَ(2) النَّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ: [مَا لَكُمْ؟]
قَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ، وَلاَ نَشْرَبُ إِلاَّ مَا بَيْنَ
يَدَيْكَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ
أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ. فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا. قُلْتُ: كَمْ
كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا. كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ
مِائَةً(3).
- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَنَّهُ قَالَ: [رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ J وَحَانَتْ صَلاَةُ
الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ J بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ
رَسُولُ اللهِ J يَدَهُ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ
يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ،
فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ](4) .
__________
(1) ركوة : قال ابن الأثير: الركوة إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء والجمع
ركاء.انظر النهاية(2/261).
(2) فجهش: قال ابن الأثير: الجهش أن يفزع الإنسان إلى الإنسان، وهو مع ذلك يريد
أن يبكي كالصبي يفزع إلى أمه.انظر جامع الأصول (1/7)
(3) رواه البخاري . انظر الفتح6(6). ورواه مسلم مختصرا برقم(6).
(4) رواه البخاري . انظر الفتح6(3). ورواه مسلم برقم(9).
(1/19)
-
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا-؛ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذِهِ
الْقِصَّةُ أَبْلَغُ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ لاشْتِمَالِهَا عَلَى قِلَّةِ
الْمَاءِ وَعَلَى كَثْرَةِ مَنِ اسْتَقَى مِنْهُ(1) .
وَإِلَيكَ أَخِي الْقَارِىءَ الشَّاهِدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ الطَّوِيلَةِ:
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ فَأَتْيْنَا
الْمُعَسْكَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: [يَا جَابِرُ!
نَادِ بِوَضُوءٍ] فَقُلْتُ: أَلاَ وَضُوءَ؟ أَلاَ وَضُوءَ؟ أَلاَ وَضُوءَ؟ قَالَ
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا وَجَدْتُ فِي الرَّكْبِ قَطْرَةً. وَكَانَ رَجُلٌ
مِنَ الأَنْصَارِ يُبْرِدُ لِرَسُولِ اللهِ J الْمَاءَ، فِي
أَشْجَابٍ لَهُ(2)، عَلَى حِمَارَةٍ(3) مِنْ جَرِيدٍ. قَالَ فَقَالَ لِي:
[انْطَلِقْ إِلَى فُلاَنِ ابْنِ فُلاَنٍ الأَنْصَارِيِّ، فَانْظُرْ هَلْ فِي
أَشْجَابِهِ مِنْ شَيْءٍ؟] قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ فَنَظَرْتُ فِيهَا
فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ قَطْرَةً(4) فِي عَزْلاَءَ(5)، لَوْ أَنِّي
أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ(6) . فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ J فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللهِ! إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ قَطْرَةً فِي عَزْلاَءِ شَجْبٍ
مِنْهَا، لَوْ أَنِّي أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ، قَالَ: اذْهَبْ فأْتِنِي
بِهِ] فَأَتَيْتُهُ
__________
(1) انظر الفتح(6/8).
(2) في أشجاب له: الأشجاب جمع شجب وهو السقاء الذي أخلق وبلى وصار شنا . يقال:
شاجب أي يابس . وهو من الشجب الذي هو الهلاك
(3) حمارة: هي أعواد تعلق عليها أسقية الماء
(4) إلا قطرة: أي يسيرا.
(5) عزلاء: هي فم القربة.
(6) لشربه يابسه: معناه أنه قليل جدا، فلقلته، مع شدة يبس باقي الشجب، وهو السقاء،
لو أفرغته لاشتفه اليابس منه ولم ينزل منه شيء.
(1/20)
بِهِ،
فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ لاَ أَدْرِي مَا هُوَ.
وَيَغْمِزُهُ بِيَدَيْهِ(1) . ثُمَّ أَعْطَانِيهِ فَقَالَ: [يَا جَابِرُ! نَادِ
بِجَفْنَةٍ] فَقُلْتُ: يَا جَفْنَةَ الرَّكْبِ(2)! فَأَتَيْتُ بِهَا تُحْمَلُ.
فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J بِيَدِهِ فِي
الْجَفْنَةِ هَكَذَا. فَبَسَطَهَا وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. ثُمَّ وَضَعَهَا
فِي قَعْرِ الْجَفْنَةِ. وَقَالَ: [خُذْ يَاجَابِرُ! فَصُبَّ عَلَيَّ. وَقُلْ
بِاسْمِ اللهِ] فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: بِاسْمِ اللهِ. فَرَأَيْتُ الْمَاءَ
يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللهِ J، ثُمَّ فَارَتِ
الْجَفْنَةُ وَدَارَتْ حَتَّى امْتَلأَتْ. فَقَالَ: [يَا جَابِرُ نَادِ مَنْ كَانَ
لَهُ حَاجَةٌ بِمَاءٍ] قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ فَاسْتَقَوْا حَتَّى رَوَوْا.
قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَهُ حَاجَةٌ؟ فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ J يَدَهُ مِنَ
الْجَفْنَةِ وَهِيَ مَلأَى](3) .
قَالَ الْمُزَنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: نَبْعُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ J أَبْلَغُ فِي
الْمُعْجِزَةِ مِنْ نَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ حَيْثُ ضَرَبَهُ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالْعَصَا فَتَفَجَّرَتْ مِنْهُ الْمِيَاهُ لأَنَّ خُرُوجَ
الْمَاءِ مِنَ الْحِجَارَةِ مَعْهُودٌ، بِخِلاَفِ خُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ
اللَّحْمِ وَالدَّمِ. انْتَهَى(4).
__________
(1) ويغمزه بيديه: أي يعصره.
(2) يا جفنة الركب: أي يا صاحب جفنة الركب . فحذف المضاف للعلم بأنه المراد، وأن
الجفنة لا تنادى . ومعناه يا صاحب جفنة الركب التي تشبعهم أحضرها . أي من كان عنده
جفنة بهذه الصفة، فليحضرها.
انظر فيما سبق شرح النووي على صحيح مسلم (8/5، 6).
(3) رواه مسلم برقم(3).
(4) نقله عنه ابن عبد البر . انظر فتح الباري(6/7).
(1/21)
تَكْثِيرُهُ
الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ J:
فَأَمَّا الطَّعَامُ:
فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ J مَرَّاتٍ
عَدِيدَةً، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ قِصَّةِ
ضِيَافَةِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كَمَا حَدَّثَ
بِهَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ
أَبُوطَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ: قَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللهِ J ضَعِيفًا. أَعْرِفُ
فِيهِ الْجُوعَ. فَهَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْرَجَتْ
أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ: ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا. فَلَفَّتِ الْخُبْزَ
بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي. وَرَدَّتْنِي(1) بِبَعْضِهِ. ثُمَّ
أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ J. قَالَ: فَذَهَبْتُ
بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ J جَالِسًا فِي
الْمَسْجِدِ. وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: [أَرْسَلَكَ أَبُو
طَلْحَةَ؟] قَالَ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: [أَلِطَعَامٍ؟] فَقُلْتُ: نَعَمْ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J لِمَنْ مَعَهُ: [قُومُوا] قَالَ: فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ. فَقَالَ أَبُو
طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللهِ J بِالنَّاسِ.
وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ. فَقَالَتْ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللهِ J. فَأَقْبَلَ
رَسُولُ اللهِ J مَعَهُ حَتَّى دَخَلاَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: [هَلُمِّي مَا
عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ! [فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ. فَأَمَرَ بِهِ
رَسُولُ اللهِ J فَفُتَّ. وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً(2)
__________
(1) وردتني: أي جعلت بعضه رداء على رأسي.
(2) عكة: بضم العين وتشديد الكاف هي وعاء صغير من جلد للسمن خاصة.
(1/22)
لَهَا
فَأَدَمَتْهُ(1) . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ J مَا شَاءَ اللهُ
أَنْ يَقُولَ. ثُمَّ قَالَ: [ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ(2)] فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا
حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا. ثُمَّ قَالَ: [ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ] فَأَذِنَ
لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا. ثُمَّ قَالَ: [ائْذَنْ
لِعَشَرَةٍ] حَتَّى أَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا. وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ
رَجُلاً أَوْ ثَمَانُونَ](3) .
- قِصَّةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي غَزْوَةِ
الْخَنْدَقِ:
__________
(1) فأدمته: هو بالمد والقصر، لغتان، آدمته وأدمته . أي جعلت فيه إداما.
(2) ائذن لعشرة: إنما أذن لعشرة عشرة ليكون أرفق بهم . فإن القصعة التي فت فيها
تلك الأقراص لا يتحلق عليها أكثر من عشرة إلا بضرر يلحقهم، لبعدها عنهم. انظر فيما
سبق شرح النووي على صحيح مسلم(3/9.-0).
(3) رواه البخاري . انظر الفتح6(8) . ورواه مسلم -واللفظ له- برقم(0).
(1/23)
وَمِنْ
تَكْثِيرِهِ الطَّعَامَ J أَيْضًا، مَا وَقَعَ مَعَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا- فِي الْخَنْدَقِ حَيْثُ يَقُولُ جَابِرٌ: [لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ
رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ J خَمْصًا(1) . فَانْكَفَأْتُ(2) إِلَى امْرَأَتِي. فَقُلْتُ لَهَا:
هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ J خَمْصًا شَدِيدًا.
فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا(3) فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ. وَلَنَا بَهِيمَةٌ(4)
دَاجِنٌ(5) قَالَ: فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنْتُ. فَفَرَغْتُ إِلَى فَرَاغِي.
فَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا. ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ J فَقَالَتْ: لاَ
تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللهِ J وَمَنْ مَعَهُ.
قَالَ: فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّا قَدْ
ذَبَحْنَا بَهِيمَةً لَنَا. وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا.
فَتَعَالَ أَنْتَ فِي نَفَرٍ مَعَكَ. فَصَاحَ رَسُولُ اللهِ J وَقَالَ: [يَا
أَهْلَ الْْخَنْدَقِ! إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُورًا(6) فَحَيْهَلاَ(7)
بِكُمْ [وَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: [لاَ تُنْزِلَنَّ
بُرْمَتَكُمْ وَلاَ تَخْبِزَنَّ عَجِينَتَكُمْ، حَتَّى
__________
(1) خمصا: الخمص خلاء البطن من الطعام.
(2) فانكفأت: أي انقلبت ورجعت.
(3) جرابا: هو وعاء من جلد معروف . بكسر الجيم وفتحها . والكسر أشهر.
(4) بهيمة: تصغير بهمة . وهي الصغيرة من أولاد الضأن . قال الجوهري: وتطلق على
الذكر والأنثى كالشاة والسخلة الصغيرة من أولاد المعز
(5) داجن: الداجن ما ألف البيوت.
(6) سورا: بضم السين وإسكان الواو، غير مهموز، هو الطعام الذي يدعى إليه . وقيل
الطعام مطلقا . وهي لفظة فارسية.
(7) فحيهلا: بتنوين هلا، وقيل: بلا تنوين، على وزن علا . ومعنى حيهل، عليك بكذا،
أو ادع بكذا، هكذا قاله أبوعبيد وغيره . وقيل: معناه اعجل به . وقال الهروي: معناه
هات وعجل به.
(1/24)
أَجِيءَ]
فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ J يَقْدُمُ النَّاسَ.
حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي. فَقَالَتْ: بِكَ. وَبِكَ(1) . فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ
الَّذِي قُلْتِ لِي(2) . فَأَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينَتَنَا فَبَصَقَ فِيهَا
وَبَارَكَ. ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ. ثُمَّ قَالَ:
[ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ(3) وَلاَ
تُنْزِلُوهَا] وَهُمْ أَلْفٌ. فَأُقْسِمُ بِاللهِ! لأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ
وَانْحَرَفُوا(4) . وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ(5) كَمَا هِيَ. وَإِنَّ
عَجِينَتَنَا - أَوْ كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ- لَتُخْبَزُ كَمَا هُوَ(6)](7).
وَأَمَّا الشَّرَابُ:
فَنَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ مِثَالاً وَاحِدًا وَهُوَ اللَّبَنُ:
__________
(1) بك وبك: أي ذمته ودعت عليه . وقيل: معناه بك تلحق الفضيحة وبك يتعلق الذم
وقيل: معناه جرى هذا برأيك وسوء نظرك وتسيبك.
(2) قد فعلت الذي قلت لي: معناه أني أخبرت النبي J بما عندنا، فهو
أعلم بالمصلحة.
(3) واقدحي من برمتكم: أي اغرفي . والمقدح المغرفة -يقال: قد قدحت المرق أقدحه،
غرفته.
(4) تركوه وانحرفوا: أي شبعوا وانصرفوا.
(5) لتغط: أي تغلي ويسمع غليانها.
(6) كما هو: يعود إلى العجين.
انظر فيما سبق شرح النووي على صحيح مسلم (3/5- 7).
(7) رواه البخاري . انظر الفتح7(2) . ورواه مسلم -واللفظ له- برقم(9).
(1/25)
فَمِنْ أَدِلَّةِ تَكْثِيرِهِ J اللَّبَنَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَللهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ. وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي. فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ. ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي. فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُوالْقَاسِمِ J فَتَبَسَّمَ حِينَ رآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: [يَا أَبَا هِرٍّ] قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ، قَالَ: [الْحَقْ] وَمَضَى. فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ: [مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟] قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ - أَوْ فُلاَنَةٌ- قَالَ: [يَا أَبَا هِرٍّ] قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: [الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي] قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ، لاَ يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ وَلاَ عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ
(1/26)
وَطَاعَةِ
رَسُولِهِ J بُدٌّ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا
فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ. قَالَ:
[يَا أَبَا هِرٍّ] قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: [خُذْ
فَأَعْطِهِمْ]، فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ
حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ
فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ
فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ
الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى
انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ J وَقَدْ رَوِيَ
الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ
إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: [يَا أَبَا هِرٍّ]، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ
اللهِ. قَالَ: [بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ] قُلْتُ: صَدَقْتَ يَارَسُولَ اللهِ،
قَالَ: [اقْعُدْ فَاشْرَبْ]. فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: [اشْرَبْ]،
فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: [اشْرَبْ]، حَتَّى قُلْتُ: لاَ وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا. قَالَ: [فَأَرِنِي]،
فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ(1).
دَلاَئِلُ نُبُوَّتِهِ J فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ:
قِصَّةُ الْبَعِيرِ وَسُجُودِهِ وَشَكْوَاهُ لِرَسُولِ اللهِ J:
__________
(1) انظر البخاري - الفتح1(2).
(1/27)
-
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: [كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ
مِنْ الأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْنُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ اسْتَصْعَبَ
عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ وَأَنَّ الأَنْصَارَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ
اللهِ J فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نَسْنِي(1) عَلَيْهِ
وَأَنَّهُ اسْتَصْعَبَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ، وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ
وَالنَّخْلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J لأَصْحَابِهِ:
[قُومُوا]، فَقَامُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَتِهِ، فَمَشَى
النَّبِيُّ J نَحْوَهُ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: يَارَسُولَ اللهِ إِنَّهُ قَدْ
صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ، فَقَالَ:
[لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ]، فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ J أَقْبَلَ نَحْوَهُ
حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ J بِنَاصِيَتِهِ
أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ، حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ لَهُ
أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ الْبَهِيمَةُ لاَ تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ،
وَنَحْنُ أَحَقُّ أَن نَسْجُدَ لَكَ، فَقَالَ: [لاَ يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ
يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لأَمَرْتُ
الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَالَّذِي
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ
قُرْحَةٌ تَتَفَجَّرُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ
فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ](2) .
__________
(1) نسني عليه: نسْتَقِي عليه - انظر النهاية (2/5).
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده(3/8،9). قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد وقد
روى النسائي بعضه. انظر البداية والنهاية(6/2).
(1/28)
-
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ قَالَ: [أَرْدَفَنِي
رَسُولُ اللهِ J ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لاَ أُخْبِرُ
بِهِ أَحَدًا أَبَدًا وَكَانَ رَسُولُ اللهِ J أَحَبَّ مَا
اسْتَتَرَ بِهِ فِي حَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشٌ(1) نَخْلٍ فَدَخَلَ يَوْمًا
حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ قَدْ أَتَاهُ فَجَرْجَرَ(2)
وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ. قَالَ بَهْزٌ وَعَفَّانُ: فَلَمَّا رأَى النَّبِيَّ J حَنَّ وَذَرَفَتْ
عَيْنَاهُ فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ J سَرَاتَهُ(3)
وَذَفْرَاهُ(4) سَكَنَ فَقَالَ: [مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ]، فَجَاءَ فَتًى مِنَ
الأَنْصَارِ فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: [أَمَا تَتَّقِي اللهَ
فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَهَا اللهُ، إِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ
أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ(5) .
إِخْبَارُ الذِّئْبِ بِنُبُوَّتِهِ J:
__________
(1) الحائش: جماعة النخل، لا مفرد له.
(2) جرجر: ردد صوته في حنجرته.
(3) السراة: الظهر وقيل السنام.
(4) الذفرى: العظم الشاخص خلف الأذن . وذفرى البعير أصل أذنه وقيل الذفرى الموضع
الذي يَعْرق من البعير خلف الأذن. انظر النهاية(2/1)، ولسان العرب(4/7).
(5) رواه أبو داود برقم(9) . ورواه الإمام أحمد في المسند(1/4، 5).
والحاكم في المستدرك(2/9، 0) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه
الذهبي . والحديث أصله في مسلم بالإسناد نفسه دون قصة الجمل برقم(2).
(1/29)
-
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: عَدَا الذِّئْبُ
عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ، فَأَقْعَى
الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ فَقَالَ: أَلاَ تَتَّقِي اللهَ؟ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا
سَاقَهُ اللهُ إِلَيَّ؟ فَقَالَ: يَا عَجَبِي ذِئْبٌ يُقْعِي عَلَى ذَنَبِهِ
يُكَلِّمُنِي كَلاَمَ الإِنْسِ! فَقَالَ الذِّئْبُ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ
مِنْ ذَلِكَ؟ مُحَمَّدٌ J بِيَثْرِبَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ
فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ J فَأَخْبَرَهُ،
فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ J فَنُودِيَ: الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ.
ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي: [أَخْبِرْهُمْ]. فَأَخْبَرَهُمْ. فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ J: [صَدَقَ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تَقُومُ
السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الإِنْسَ، وَيُكَلِّمَ الرَّجُلُ عَذَبَةَ
سَوْطِهِ، وَشِرَاكَ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرُهُ فَخْذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ
بَعْدَهُ.(1)
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند(3/8)، وابن سعد في الطبقات(1/3) والحاكم في
المستدرك(4/7،8) وقال: هذا حديث حسن صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه
الذهبي. والبيهقي في دلائل النبوة وصححه(6/1، 2) وقال ابن كثير: إسناده على
شرط الصحيح . انظر البداية والنهاية(6/0).
(1/30)
-
وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا
كَلَّمَ الذِّئْبُ رَاعِيَ الْغَنَمِ فَقَالَ الرَّجُلُ: تَاللهِ إِنْ رَأَيْتُ
كَالْيَوْمِ ذِئْبًا يَتَكَلَّمُ. فَقَالَ الذِّئْبُ: أَعْجَبُ مِنْ هَذَا رَجُلٌ
فِي النَّخْلاَتِ بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ(1) يُخْبِرُكُمْ بِمَا مَضَى وَمَا هُوَ
كَائِنٌ بَعْدَكُمْ. وَكَانَ الرَّجُلُ يَهُودِيًّا، فَجَاءَ النَّبِيَّ J فَأَسْلَمَ
وَخَبَّرَهُ فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ J(2) .
مُعْجِزَاتُهُ J فِي أَنْوَاعِ الجَمَادَاتِ:
حَنِينُ الْجِذْعِ شَوْقًا إِلَى رَسُولِ اللهِ J وَشَفَقًا مِنْ
فِرَاقِهِ:
وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ -كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ- مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ
مِنَ الصَّحَابَةِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ أَئِمَّةِ
الشَّأْنِ وَفُرْسَانِ هَذَا الْمَيْدَانِ(3) .
__________
(1) أي المدينة المنورة.
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده(2/6)، قال ابن كثير: تفرد به أحمد وهو على شرط
السنن ولم يخرجوه . انظر البداية والنهاية(6/1) . وقال الهيثمي:رجاله ثقات .
انظر مجمع الزوائد(8/2) . وقال السيوطي: سنده صحيح . انظر الخصائص(2/3).
(3) انظر البداية والنهاية(6/1).
(1/31)
وَمِنْ
ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا-: [أَنَّ النَّبِيَّ J، كَانَ يَقُومُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ
الأَنْصَارِ - أَوْ رَجُلٌ-: يَارَسُولَ اللهِ، أَلاَ نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟
قَالَ: [إِنْ شِئْتُمْ]. فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ دَفَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ،
ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ J فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، يَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي
يَسْكُنُ. قَالَ: كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ
عِنْدَهَا](1) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: [كَانَ
الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ J إِذَا خَطَبَ
يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ فَكَانَ عَلَيْهِ
فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ(2)، حَتَّى جَاءَ
النَّبِيُّ J فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، فَسَكَنَتْ](3).
وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ J: [... وَلَوْ لَمْ
أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ](4) .
__________
(1) رواه البخاري . انظر الفتح6(4).
(2) العشار: جمع عشراء، وهي الناقة التي أتى عليها عشرة أشهر من حملها. انظر جامع
الأصول(1/3).
(3) رواه البخاري . انظر الفتح6(5).
(4) رواه الإمام أحمد في مسنده(1/9) . وابن ماجة برقم(5)، قال الحافظ ابن
كثير: وهذا الإسناد على شرط مسلم . انظر البداية والنهاية(6/5)، وقال البوصيري
في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات. انظر سنن ابن ماجه(1/5).
(1/32)
وَكَانَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، إِذَا حَدَّثَ بِحَدِيثِ حَنِينِ
الْجِذْعِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى
رَسُولِ اللهِ J شَوْقًا إِلَى لِقَائِهِ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا
إِلَيْهِ](1).
وَنَقَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي [مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَمْرِو بْنِ سَوَادٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: مَا أَعْطَى اللهُ نَبِيًّا مَا
أَعْطَى مُحَمَّدًا، فَقُلْتُ: أَعْطَى عِيسَى إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، قَالَ:
أَعْطَى مُحَمَّدًا حَنِينَ الْجِذْعِ حَتَّى سَمِعَ صَوْتَهُ، فَهَذَا أَكْبَرُ
مِنْ ذَلِكَ(2) .
انْقِيَادُ الشَّجَرِ لِرَسُولِ اللهِ J:
وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَأَعْلاَمِ نُبُوَّتِهِ J انْقِيَادُ
الشَّجَرِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي مَرَّاتٍ عِدَّةٍ:
__________
(1) انظر فتح الباري(6/7).
(2) أورده ابن حجر في الفتح(6/8).
(1/33)
-
فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ قَالَ: سِرْنَا مَعَ
رَسُولِ اللهِ J حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ(1) . فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ J يَقْضِي حَاجَتَهُ.
فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ J فَلَمْ يَرَ
شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ. فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي(2) .
فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ J إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا.
فَقَالَ: [انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ] فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ
الْمَخْشُوشِ(3)، الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ. حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ
الأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا. فَقَالَ: [انْقَادِي عَلَيَّ
بِإِذْنِ اللهِ] فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ. حَتَّى إِذَا كَانَ
بِالْمِنْصَفِ(4) مِمَّا بَيْنَهُمَا، لأَمَ(5) بَيْنَهُمَا (يَعْنِي جَمَعَهُمَا)
فَقَالَ: [الْتَئِمَا عَلَيَّ بَإِذْنِ اللهِ] فَالْتَأَمَتَا. قَالَ جَابِرٌ:
فَخَرَجْتُ أَحْضِرُ(6) مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللهِ J بِقُرْبِي
فَيَبْتَعِدَ، فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي. فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ(7)،
فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ J مُقْبِلاً. وَإِذَا
الشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا. فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى
سَاقٍ. فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ J
__________
(1) واديا أفيح: أي واسعا.
(2) بشاطئ الوادي: أي جانبه
(3) .كالبعير المخشوش: هو الذي يجعل في أنفه خشاش، وهو عود يجعل في أنف البعير إذا
كان صعبا، ويشد فيه حبل ليذل وينقاد . وقد يتمانع لصعوبته، فإذا اشتد عليه وآلمه
انقاد شيئا . ولهذا قال: الذي يصانع قائده.
(4) بالمنصف : هو نصف المسافة.
(5) لأم: روي بهمزة مقصورة: لأم وممدودة:لاءم . وكلاهما صحيح . أي جمع بينهما.
(6) فخرجت أحضر: أي أعدو وأسعى سعيا شديدا.
(7) فحانت مني لفتة: اللفتة النظرة إلى جنب.
(1/34)
وَقَفَ
وَقْفَةً. فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا؟وَأَشَارَ أَبُو إسْمَاعِيلَ بِرَأْسِهِ
يَمِينًا وَشِمَالاً ثُمَّ أَقْبَلَ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيَّ قَالَ:
[يَاجَابِرُ هَلْ رَأَيْتَ مَقَامِي؟] قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ:
[فَانْطَلِقْ إِلَى الشَّجَرَتَيْنِ فَاقْطَعْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
غُصْنًا. فَأَقْبِلْ بِهِمَا. حَتَّى إِذَا قُمْتُ مَقَامِي فَأَرْسِلْ غُصْنًا
عَنْ يَمِينِكَ وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِكَ] قَالَ جَابِرٌ: فَقُمْتُ فَأَخَذْتُ
حَجَرًا فَكَسَرْتُهُ وَحَسَرْتُهُ(1) . فَانْذَلَقَ(2) لِي. فَأَتَيْتُ
الشَّجَرَتَيْنِ فَقَطَعْتُ مِنْ كُلِّ وَاحَدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا. ثُمَّ
أَقْبَلْتُ أَجُرُّهُمَا حَتَّى قُمْتُ مَقَامَ رَسُولِ اللهِ J. أَرْسَلْتُ
غُصْنًا عَنْ يَمِينِي وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِي. ثُمَّ لَحِقْتُهُ فَقُلْتُ: قَدْ
فَعَلْتُ، يَارَسُولَ اللهِ! فَعَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: [إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ
يُعَذَّبَانِ. فَأَحْبَبْتُ، بِشَفَاعَتِي، أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا(3)، مَادَامَ
الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ](4).(5).
__________
(1) وحسرته: أي أحددته ونحيت عنه ما يمنع حدته بحيث صار مما يمكن قطع الأغصان به.
(2) فانذلق: أي صار حادا.
(3) أن يرفه عنهما: أي يخفف.
(4) رواه مسلم برقم (2).
(5) انظر فيما سبق شرح النووي على صحيح مسلم (8/35).
(1/35)
-
وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ قَالَ: كُنَّا مَعَ
رَسُولِ اللهِ J فِي سَفَرٍ، فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ J: أَيْنَ تُرِيدُ؟] قَالَ: إِلَى أَهْلِي، قَالَ: [هَلْ لَكَ فِي
خَيْرٍ؟] قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: [تَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ
وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مْحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ]، قَالَ:
وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ: [هَذِهِ السَّلِمَةُ(1)، فَدَعَاهَا
رَسُولُ اللهِ J وَهِيَ بِشَاطِيءِ الْوَادِي. فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ(2) الأَرْضَ
خَدًّا حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَشْهَدَهَا ثَلاَثًا فَشَهِدَتْ
ثَلاَثًا أَنَّهُ كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبِتِهَا، وَرَجَعَ
الأَعْرَابِيُّ إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: إِنِ اتَّبَعُونِي آتِكَ بِهِمْ،
وَإِلاَّ رَجَعْتُ فَكُنْتُ مَعَكَ](3) .
تسليم الحجر عليه J:
- رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا-؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ J: [إِنِّي لأَعْرِفُ
حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ. إِنِّي
لأَعْرِفُهُ الآنَ](4) .
__________
(1) السلمة: شجرة من أشجار البادية.
(2) تخد: تشق.
(3) رواه الدرامي في المقدمة برقم(6)، قال الحافظ ابن كثير: إسناده جيد. انظر
البداية والنهاية(6/1).
(4) رواه مسلم برقم(7).
(1/36)
قَالَ
الإِمَامُ النَّوَوِيُّ مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: فِيهِ مُعْجِزَةٌ لَهُ
J وَفِي هَذَا إِثْبَاتُ التَّمْيِيزِ فِي بَعْضِ الْجَمَادَاتِ
وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِجَارَةِ: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ}(1) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}(2).(3) .
تَسْبِيحُ الطَّعَامِ بِحَضْرَتِهِ J:
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الآيَاتِ بَرَكَةً، وَأَنْتُمْ
تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ J فِي سَفَرٍ فَقَلَّ
الْمَاءُ، فَقَالَ: [اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ] فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ
مَاءٌ قَلِيلٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ: [حَيَّ عَلَى
الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ، وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللهِ] فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ
يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللهِ J، وَلَقَدْ كُنَّا
نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ](4) .
عِصْمَتُهُ J مِنَ النَّاسِ:
لَقِيَ رَسُولُ اللهِ J مِنْ أَعْدَائِهِ كَثِيرَ الأَذَى وَعَظِيمَ الشِّدَّةِ مُنْذُ
أَنْ جَهَرَ بِدَعْوَتِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَفِظَهُ
وَنَصَرَهُ وَعَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ.
__________
(1) سورة البقرة: آية رقم(4).
(2) سورة الإسراء: آية رقم(4).
(3) انظر شرح النووي على مسلم(5/6،7).
(4) انظر فتح الباري6(9).
(1/37)
{يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ وَإِنْ لَّمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1) وَقَدْ
كَانَ النَّبِيُّ J يُحْرَسُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ
أَصْحَابِهِ فَلَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ
انْصَرِفُوا عَنِّي فَقَدْ عَصَمَنِيَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ](2) .
__________
(1) سورة المائدة: آية رقم (7)
(2) رواه الترمذي برقم (6)، والحاكم في المستدرك: (2/3) وقال: حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال محقق [جامع الأصول] (2/1): وحسَّنه
الحافظ ابن حجر في [الفتح].
(1/38)
وَمِنْ
عِصْمَةِ اللهِ لِرَسُولِهِ J حِفْظُهُ لَهُ مِنْ
أَهْلِ مَكَّةَ وَصَنَادِيدِهَا وَحُسَّادِهَا وَمُعَانِدِيهَا وَمُتْرَفِيهَا مَعَ
شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبُغْضَةِ وَنَصْبِ الْمُحَارَبَةِ لَهُ لَيْلاً
وَنَهَارًا بِمَا يَخْلُقُهُ اللهُ مِنَ الأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ بِقُدْرَتِهِ
وَحِكْمَتِهِ فَصَانَهُ فِي ابْتِدَاءِ دَعْوَتِهِ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ إِذْ
كَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا فِي قُرَيْشٍ وَجَعَلَ اللهُ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةً
طَبِيعِيَّةً لِرَسُولِ اللهِ J لاَ شَرْعِيَّةً،
وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ لاجْتَرَأَ عَلَيْهِ كُفَّارُهَا وَكِبَارُهَا وَلَكِنْ
لَمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْكُفْرِ هَابُوهُ
واحْتَرَمُوهُ فَلَمَّا مَاتَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ نَالَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ
أَذًى يَسِيرًا ثُمَّ قَيَّضَ اللهُ لَهُ الأَنْصَارَ فَبَايَعُوهُ عَلَى
الإِسْلاَمِ وَعَلَى أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى دَارِهِمْ وَهِيَ الْمَدِينَةُ
فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهَا مَنَعُوهُ مِنَ الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ وَكُلَّمَا
هَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ بِسُوءٍ
كَادَهُ اللهُ وَرَدَّ كَيْدَهُ عَلَيْهِ(1) .
وَالأَمْثِلَةُ عَلَى عِصْمَةِ اللهِ لِرَسُولِهِ J وَكَفِّ
الأَعْدَاءِ عَنْهُ كَثِيَرَةٌ نَكْتَفِي بِذِكْرِ نَمَاذِجَ مِنْهَا:
__________
(1) هل يعفر محمد وجهه: أي يسجد ويلصق وجهه بالعفر، وهو التراب .
(1/39)
-
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: [قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ
يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ(2) بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالَ فَقِيلَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ
عَلَى رَقَبَتِهِ. أَوْ لأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ. قَالَ فَأَتَى
رَسُولَ اللهِ J وَهُوَ يُصَلِّي. زَعَمَ لَيَطَأُ عَلَى رَقَبَتِهِ. قَالَ فَمَا
فَجِئَهُمْ(1) مِنْهُ إِلاَّ وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ(2) وَيَتَّقِي
بِيَدَيْهِ. قَالَ فَقِيلَ لَهُ: مَالَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ
لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: [لَوْ دَنَا مِنِّي لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْوًا
عُضْوًا](3) .
__________
(1) فجئهم: بكسر الجيم، ويقال أيضا فجأهم، بفتحها . لغتان . أي بغتهم.
(2) ينكص على عقبيه: أي رجع يمشي الى ورائه. قال ابن فارس:النكوص الإحجام عن
الشيء.
(3) رواه البخاري مختصرا - انظر: الفتح 8(8) ورواه مسلم واللفظ له برقم (7).
(1/40)
-
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ
النَّبَوِيَّةِ قَالَ: [فَارْتَحَلْنَا بَعْدَ مَا مَالَتِ الشَّمْسُ،
وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، فَقُلْتُ: أُتِينَا يَا رَسُولَ اللهِ،
فَقَالَ: لاَ تَحْزَنْ، إِنَّ اللهَ مَعَنَا. فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ J فَارْتَطَمَتْ بِهِ
فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا فَقَالَ: إِنِّي أَرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ،
فَادْعُوَا لِي، فَاللهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ. فَدَعَا لَهُ
النَّبِيُّ J، فَنَجَا، فَجَعَلَ لاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ قَالَ:
كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا، فَلاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ رَدَّهُ، قَالَ: وَوَفَّى
لَنَا](1) .
- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ
رَسُولِ اللهِ J حُنَيْنًا... فَوَلَّى صَحَابَةُ النَّبِيِّ J... فَلَمَّا
غَشَوْا رَسُولَ اللهِ J(2) نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ
مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: شَاهَتِ
الْوُجُوهُ(3) ] فَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلاَّ مَلأَ عَيْنَيْهِ
تُرَابًا. بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ. فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. فَهَزمَهُمُ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ. وَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ J غَنَائِمَهُمْ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ](4) .
__________
(1) رواه البخاري مطولا - انظر: الفتح 6(5) ومسلم برقم (9).
(2) فلما غشوا رسول الله J: أي أتوه من كل جانب.
(3) شاهت الوجوه: أي قبحت.
(4) رواه مسلم برقم (7).
(1/41)
-
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ
رَسُولِ اللهِ J غَزْوَةً قِبَلَ(1) نَجْدٍ. فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللهِ J فِي وَادٍ كَثِيرِ
الْعِضَاهِ(2) . فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ J تَحْتَ شَجَرَةٍ.
فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا. قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي
الوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: [إِنَّ رَجُلاً
أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَأَخَذَ السَّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ
عَلَى رَأْسِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلاَّ وَالسَّيْفُ صَلْتًا(3) فِي يَدِهِ.
فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُ. ثُمَّ قَالَ فِي
الثَّانِيَةِ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ قُلْتُ: اللهُ. قَالَ فَشَامَ
السَّيْفُ(4) فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ. ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللهِ J(5) .
إِجَابَةُ دُعَائِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ:
__________
(1) قبل نجد: أي ناحية نجد . في غزوته الى غطفان . وهي غزوته ذي أمر، موضع من ديار
غطفان.
(2) العضاه: هي كل شجرة ذات شوك .
(3) صلتا: بفتح الصاد وضمها . أي مسلولا
(4) فشام السيف: معناه غمده ورده في غمده .
(5) رواه البخاري. انظر الفتح 6(0) ومسلم برقم (3)
(1/42)
كَانَ
رَسُولُ اللهِ J، كَمَا وَصَفَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ}(1) فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَصْحَابِهِ نَظْرَةَ الرَّحْمَةِ
وَالشَّفَقَةِ فَكُلَّمَا أَلَمَّ بِأَصْحَابِهِ مَكْرُوهٌ مِنْ عَاهَةٍ أَوْ
مَرَضٍ أَوْ تَفْكِيرٍ فِي أَمْرٍ يَشْغَلُ بَالَهُمْ أَسْرَعَ رَسُولُ اللهِ J بِالدُّعَاءِ لَهُمْ
لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ وَلِكَيْ يَنَالُوا بَرَكَةَ دَعْوَتِهِ J فَيَحْصُلَ لَهُمْ
مَا يُرِيدُونَ مِنْ دَفْعِ شَرٍّ وَجَلْبِ خَيْرٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ أُخْرَوِيٍّ
أَوْ هُمَا مَعًا. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكُفَّارِ وَالمُشْرِكِينَ
وَالْمُعَانِدِينَ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ J يَدْعُو عَلَيْهِمْ
حَيْثُ تَشْتَدُّ شَوْكَتُهُمْ وَيَكْثُرُ أَذَاهُمْ وَتَارَةً كَانَ يَدْعُو
لَهُمْ حَيْثُ تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُمْ وَيُرْجَى تَآلُفُهُمْ.
وَإِذَا دَعَا رَسُولُ اللهِ J لأُنَاسٍ أَوْ
دَعَا عَلَيْهِمْ فَإِنَّكَ تَجِدُ مَا دَعَا بِهِ قَدْ تَحَقَّقَ قَطْعًا.
وَكَثْرَةُ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْبَابِ تَجْعَلُ الإِنْسَانَ عَلَى يَقِينٍ
كَامِلٍ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُؤَيِّدُهُ
وَيُسَدِّدُهُ وَيَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُ. وَإِجَابَةُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ J لِجَمَاعَةٍ بِمَا
دَعَا لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاتِرٌ عَلَى الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ
بِالضَّرُورَةِ(2).
وَلِرَسُولِ اللهِ J مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمُسْتَجَابَاتِ مَا لاَ يُحْصَى كَثْرَةً
مِمَّا حَفِلَتْ بِهِ مُصَنَّفَاتُ الْحَدِيثِ وَمُدَوَّنَاتُ السِّيرَةِ.
وَهَذِهِ نُخْبَةٌ مُخْتَارَةٌ مِنْ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ عَلَى سَبِيلِ
الإِشَارَةِ:
- سُرْعَةُ الإِجَابَةِ:
__________
(1) سورة التوبة: آية (8)
(2) انظر / الشفا / للقاضي عياض (1/5)
(1/43)
-
فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ
الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَرَسُولُ اللهِ J قَائِمٌ يَخْطُبُ،
فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ J قَائِمًا ثُمَّ
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ(1) وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ(2) .
فَادْعُ اللهَ يُغِيثنَا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ J يَدَيْهِ. ثُمَّ
قَالَ: [اللَّهُمَّ أَغِثْنَا(3) . اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا].
قَالَ أَنَسٌ: وَلاَ وَاللهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ
قَزَعَةٍ(4) . وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ(5) مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ. قَالَ
فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ(6) فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ
السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ. ثُمَّ أَمْطَرَتْ. قَالَ: فَلاَ وَاللهِ مَا رَأَيْنَا
الشَّمْسَ سَبْتًا. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي
الْجُمُعَةِ الْمُقْبَلِةِ. وَرَسُولُ اللهِ J قَائِمٌ يَخْطُبُ.
فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ
وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ. فَادْعُ اللهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا. قَالَ: فَرَفَعَ
رَسُولُ اللهِ J يَدَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: [اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا.
اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ(7)
__________
(1) هلكت الأموال: المراد بالأموال هنا المواشي خصوصا الإبل وهلاكها من قلة
الأقوات بسبب عدم المطر والنبات.
(2) وانقطعت السبل: جمع سبيل وهي الطريق والمعني: انقطعت الطرق فلم تسلكها الإبل
إما لخوف الهلاك أو الضعف بسبب قلة الكلأ أو عدمه
(3) أغثنا: الإغاثة: الإعانة والمراد به: إعانتهم بإنزال المطر.
(4) قزعة: بالتحريك هي القطعة من الغيم والجمع قزع .
(5) سلع: جبل قرب المدينة.
(6) مثل الترس:الترس هو ما يتقي به السيف ووجه الشبه الاستدارة والكثافة لا القدر.
(7) الآكام: جمع أكمة وهي الرابية المرتفعة من الأرض.
(1/44)
،
وَالظِّرَابِ(1) وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ] فَانْقَلَعَتْ. وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي
الشَّمْسِ](2) .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَنَسُ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَصَابَتِ
النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ J فَبَيْنَا
النَّبِيُّ J يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ إِذْ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ:
يَارَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللهَ لَنَا،
فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً فَوَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ
يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ
J. فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الْغَدِ، وَبَعْدَ
الْغَدِ، وَالَّذِي يَلِيهِ حَتَّى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى.
وَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ أَوْ قَالَ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ
حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا. فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ
السَّحَابِ إِلاَّ انْفَرَجَتْ، وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ(3) .
وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةً شَهْرًا، وَلَمْ يَجِيءْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلاَّ
حَدَّثَ بِالْجَودِ(4).(5) .
يُمْهِلُ وَلاَ يُهْمِلُ:
__________
(1) الظراب: جمع ظرب، وهي صغار الجبال والتلال.
(2) رواه البخاري - انظر الفتح: 2(3) . ومسلم واللفظ له برقم (7).
(3) الجوبة: الموضع المنخفض من الأرض.
(4) بالجود: الجود بفتح الجيم هو المطر الغزيز.
(5) رواه البخاري - انظر الفتح 2(3).
(1/45)
[فَعَنْ
عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ
اللهِ J يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ
جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ(1) بِالأَمْسِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ
يَقُومُ إِلَى سَلاَ(2) جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَأْخُذُهُ، فَيَضَعُهُ فِي
كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ(3) فَأَخَذَهُ.
فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ J وَضَعَهُ بَيْنَ
كَتِفَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا(4). وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى
بَعْضٍ. وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ. لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ(5) طَرَحْتُهُ عَنْ
ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ J. وَالنَّبِيُّ J سَاجِدٌ، مَا
يَرْفَعُ رَأْسَهُ. حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ. فَجَاءَتْ،
وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ(6)، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ. ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ
تَشْتُمُهُمْ(7) . فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ J صَلاَتَهُ رَفَعَ
صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ. وَكَانَ إِذَا دَعَا، دَعَا ثَلاَثًا. وَإِذَا
سَأَلَ، سَأَلَ(8)
__________
(1) جزور: أي ناقة .
(2) سلا: هو اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان . وهي من
الآدمية المشيمة.
(3) فانبعث أشقى القوم: أي بعثته نفسه الخبيثة من دونهم فأسرع السير . وهو عقبة بن
أبي معيط، كما صرح به في الرواية الثانية .
(4) فاستضحكوا: أي حملوا أنفسهم على الضحك والسخرية . ثم أخذهم الضحك جدا، فجعلوا
يضحكون ويميل بعضهم على بعض من كثرة الضحك.
(5) لو كانت لي منعة: هي بفتح النون، وحكي إسكانها، وهو شاذ ضعيف . ومعناه لو كان
لي قوة تمنع أذاهم، أو كان لي عشيرة بمكة تمنعني .
(6) جويرية: هو تصغير جارية، بمعنى شابة . يعني أنها إذ ذاك ليست بكبيرة .
(7) تشتمهم: الشتم وصف الرجل بما فيه إزراء ونقص .
(8) وإذا سأل: هو الدعاء . لكن عطفه لاختلاف اللفظ، توكيدا
(1/46)
ثَلاَثًا.
ثُمَّ قَالَ: [اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ [ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا
سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضَّحِكُ. وَخَافُوا دَعْوَتَهُ. ثُمَّ قَالَ:
[اللَّهُمَ عَلَيْكَ بَأَبِي جَهْلٍ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ،
وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ(1)، وَأُمَيَّةَ بْنِ
خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ (وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ)
فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا J بِالْحَقِّ لَقَدْ
رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ. ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى
الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ(2) . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ
غَلَطٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ](3) .
دَعْوَةٌ وَهِدَايَةٌ:
__________
(1) والوليد بن عقبة: هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم: والوليد بن عقبة . واتفق
العلماء على أنه غلط وصوابه والوليد بن عتبة . كما ذكره مسلم في رواية أبي بكر بن
أبي شيبة، بعد هذا .
(2) ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر: القليب هي البئر التي لم تطو . وإنما وضعوا في
القليب تحقيرا لهم، ولئلا يتأذى الناس برائحتهم . وليس هو دفنا، لأن الحربي لا يجب
دفنه.
(3) رواه مسلم برقم (4)
(1/47)
عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى
الإِسْلاَمِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي
رَسُولِ اللهِ J مَا أَكْرَهُ. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ J وَأَنَا أَبْكِي.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ
فَتَأْبَى عَلَيَّ. فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ.
فَادْعُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: [اللَّهُمَّ اهْدِ
أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ] فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللهِ J. فَلَمَّا جِئْتُ
فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ. فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ(1) . فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ(2)
قَدَمَيَّ. فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ(3)
الْمَاءِ. قَالَ فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا.
فَفَتَحَتِ الْبَابَ. ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ
فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ J، فَأَتَيْتُهُ
وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، قَالَ قُلْتُ: يَارَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ قَدِ
اسْتَجَابَ اللهُ دَعَوْتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَحَمِدَ اللهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا. قَالَ قُلْتُ: يَارَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ
أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: اللَّهُمَّ
حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ
الْمُؤْمِنِينَ. وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا خَلْقٌ مُؤْمِنٌ
__________
(1) مجاف: أي مغلق .
(2) خشف: أي صوتهما في الأرض .
(3) خضخضة: خضخضة الماء صوت تحريكه.
(1/48)
يَسْمَعُ
بِي، وَلاَ يَرَانِي، إِلاَّ أَحَبَّنِي(1) .
إِخْبَارُهُ عَنِ المُغَيَّبَاتِ:
مِنْ مُعْجِزَاتِ رَسُولِ اللهِ J وَدَلاَئِلِ نُبُوَّتِهِ
مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ
وَإِخْبَارُهُ عَنْهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْمُقَرَّرِ أَنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ
مُخْتَصٌّ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَقَدْ أَضَافَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى
نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ. قَالَ
تَعَالَى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ
اللهُ}(2) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا
إِلاَّ هُوَ}(3) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَيْضًا أَنَّ الأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لاَ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ وَلاَ اطِّلاَعَ لَهُمْ عَلَى
شَيْءٍ مِنْهُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ رُسُلِهِ
الْكِرَامِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أَنَّهُمْ قَالُوا لأَقْوَامِهِمْ
{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عَنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ}(4)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ قَالَتْ: [مَنْ
زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ J يُخْبِرُ بِمَا
يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ](5) .
__________
(1) مسلم برقم (1).
(2) سورة النمل: آية (5).
(3) سورة الأنعام: آية (9).
(4) سورة الأنعام: آية (0).
(5) مسلم برقم (7).
(1/49)
وَكَمَا
جَاءَتِ الأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدِ اخْتُصَّ
بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَأَنَّهُ اسْتَأْثَرَ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ،
جَاءَتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى تُفِيدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى مِنْ خَلْقِهِ
مَنِ ارْتَضَاهُ مِنَ الرُّسُلِ فَأَوْدَعَهُمْ مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ بِطَرِيقِ
الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ وَجَعَلَهُ مُعْجِزَةً لَهُمْ وَدِلاَلَةً صَادِقَةً عَلَى
نُبُوَّتِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى
الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}(1) . وَقَالَ
تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَي غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ
مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَدًا}(2) فَتَلَخَّصَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا وَقَعَ عَلَى لِسَانِ
رَسُولِ اللهِ J مِنَ الإِخْبَارِ بِالمُغَيَّبَاتِ فَبِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى
وَهُوَ مِنْ إِعْلاَمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ J لِلدِّلاَلَةِ
عَلَى ثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ.
وَقَدِ اشْتَهَرَ وَانْتَشَرَ أَمْرُهُ J بِإِطْلاَعِ اللهِ
لَهُ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ:
- قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: قَامَ فِينَا
رَسُولُ اللهِ J مَقَامًا فَمَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ مِنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ
إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ حَدَّثَهُ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظهُ وَنَسِيَهُ مَنْ
نَسِيَهُ](3).
__________
(1) سورة آل عمران: أية (9)
(2) سورة الجن: آية (6، 7) .
(3) رواه البخاري - انظر الفتح 1(4) . ومسلم برقم (1)
(1/50)
وَقَالَ
عَمْرُو بْنُ أَخْطَبَ الأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: [صَلَّى بِنَا
رَسُولُ اللهِ J الْفَجْرَ وَصَعَدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ
الظُّهْرُ فَنَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعَدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى
حَضَرَتِ الْعَصْرُ فَنَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعَدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا
حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَأَخْبَرَنَا بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا](1) .
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وَفِينَا رَسُولُ اللهِ يَتْلُو كِتَابَهُ… إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ
الْفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا… بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ
وَاقِعُ(2) .
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - :
نَبِيٌّ يَرَى مَا لاَ يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ… وَيَتْلُو كِتَابَ اللهِ فِي
كُلِّ مَشْهَدِ
فَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ… فَتَصْدِيقُهَا فِي صَحْوَةِ
الْيَوْمِ أَوْ غَدِ(3) .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ... مَا أُطْلِعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ وَمَا
يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ الْمَعْلُومَةِ عَلَى الْقَطْعِ الْوَاصِلِ
إِلَيْنَا خَبَرُهَا عَلَى التَّوَاتُرِ لِكَثْرَةِ رُوَاتِهَا وَاتِّفَاقِ
مَعَانِيهَا عَلَى الاطِّلاَعِ عَلَى الْغَيْبِ](4) وَمُعْجِزَاتُ هَذَا الْبَابِ
لاَ يُمْكِنُ اسْتِقْصَاؤُهَا لِكَثْرَتِهَا وَوُقُوعِهَا مِنْهُ J فِي أَكْثَرِ
حَالاَتِهِ عَنْ سُؤَالٍ وَغَيْرِ سُؤَالٍ فِي مُنَاسَبَاتٍ تَقْتَضِيهَا
وَأَحْوَالٍ تَسْتَدْعِيهَا وَهِيَ أَكْثَرُ أَنْوَاعِ مُعْجِزَاتِهِ عَدَدًا.
__________
(1) رواه مسلم، برقم (2) .
(2) رواه البخاري - انظر الفتح 2(5).
(3) وردت هذه الأبيات ضمن حديث أم معبد الطويل وقد تقدم تخريجه.
(4) انظر الشفا للقاضي عياض (1/0).
(1/51)
وَلِهَذَا
السَّبَبِ فَإِنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الْمَوْضُوعِ كَثِيرَةٌ جِدًّا لاَ يُمْكِنُ
حَصْرُهَا.
وَالْمُغَيَّبَاتُ الَّتِي تَغَيَّبَهَا رَسُولُ اللهِ J عَلَى أَقْسَامٍ
ثَلاَثَةٍ:
1قِسْمٌ فِي الْمَاضِي:
كَإِخْبَارِهِ عَنِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَالأُمَمِ الْبَائِدَةِ،
وَالشَّرَائِعِ الدَّاثِرَةِ مِمَّا كَانَ لاَ يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ
الْوَاحِدَةَ إِلاَّ الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي قَطَعَ
عُمُرَهُ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَثِيرًا مَا
يَسْأَلُونَهُ تَعَنُّتًا وَتَعْجِيزًا عَنْ أَخْبَارِ تِلْكَ القُرُونِ
السَّالِفَةِ. فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ مَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْهُ
ذِكْرًا كَقَصَصِ الأَنْبِيَاءِ مَعَ قَوْمِهِمْ وَخَبَرِ مُوسَى وَالْخَضِرِ
وَيُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ. بِالإِضَافَةِ
إِلَى مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ مِنْ تَفَاصِيلَ وَدَقَائِقَ
عَنْ أَخْبَارِ تِلْكَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ وَالأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مَعَ
أَقْوَامِهِمْ. وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا صَدَّقَهُ فِيهِ عُلَمَاؤُهُمْ وَلَمْ
يَقْدِرُوا عَلَى تَكْذِيبِ مَا ذَكَرَ مِنْهَا بَلْ أَذْعَنُوا لِذَلِكَ فَمِنْ
مُوَفَّقٍ آمَنَ بِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ شَقِيٍّ مُعَانِدٍ حَاسِدٍ.
2قِسْمٌ فِي الْحَاضِرِ:
وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ مِنَ
الْمُغَيَّبَاتِ فَوَقَعَ فِي أَثْنَاءَ حَيَاتِهِ.
وَهَذِهِ بَعْضُ نَمَاذِجَ لِلْقِسْمِ الثَّانِي:
قَتْلُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ:
(1/52)
-
فَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: انْطَلَقَ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا، قَالَ: فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ
أَبِي صَفْوَانَ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّامِ فَمَرَّ
بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ: أَلاَ انْتَظِرْ
حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَغَفَلَ النَّاسُ انْطَلَقْتَ فَطُفْتَ؟
فَبَيْنَا سَعْدٌ يَطُوفُ إِذَا أَبُو جَهْلِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَطُوفُ
بِالْكَعْبَةِ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: أَنَا سَعْدٌ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: تَطُوفُ
بِالْكَعْبَةِ آمِنًا وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ؟ فَقَالَ:
نَعَمْ. فَتَلاَحَيَا(1) بَيْنَهُمَا. فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ: لاَ تَرْفَعْ
صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي. ثُمَّ قَالَ
سَعْدٌ: وَاللهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لأَقْطَعَنَّ
مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ، قَالَ فَجَعَلَ أُمَيَّةُ يَقُولُ لِسَعْدٍ: لاَ تَرْفَعْ
صَوْتَكَ وَجَعَلَ يُمْسِكُهُ فَغَضِبَ سَعْدٌ فَقَالَ: دَعْنَا عَنْكَ، فَإِنِّي
سَمِعْتُ مُحَمَّدًا J يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ. قَالَ: إِيَّايَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: وَاللهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ. فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ
فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمِينَ مَا قَالَ لِي أَخِي الْيَثْرِبِيُّ؟ قَالَتْ وَمَا
قَالَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلِي.
قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى
بَدْرٍ وَجَاءَ الصَّرِيخُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَمَا ذَكَرْتَ مَا قَالَ
لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ؟ قَالَ فَأَرَادَ أَنْ لاَ يَخْرُجَ فَقَالَ لَهُ
أَبُو
__________
(1) تلاحيا: تلاوما وتنازعا . انظر النهاية (4/3).
(1/53)
جَهْلٍ:
إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ الْوَادِي، فَسِرْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، فَسَارَ
مَعَهُمْ يَوْمَيْنِ، فَقَتَلَهُ اللهُ](1) .
مَصَارِعُ الطُّغَاةِ:
- فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ
بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَتَرَاءَيْنَا الْهِلاَلَ. وَكُنْتُ رَجُلاً
حَدِيدَ الْبَصَرِ(2) . فَرَأَيْتُهُ. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآهُ
غَيْرِي. قَالَ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِعُمَرَ: أَمَا تَرَاهُ؟ فَجَعَلَ لاَ
يَرَاهُ. قَالَ يَقُولُ عُمَرُ: سَأَرَاهُ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِي.
ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ J كَانَ يُرِينَا
مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرِ بِالأَمْسِ. يَقُولُ: هَذَا مَصْرَعُ فُلاَنٍ غَدًا، إِنْ
شَاءَ اللهُ قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا
أَخْطَئُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللهِ J. قَالَ فَجُعِلُوا
فِي بِئْرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ J حَتَّى انْتَهَى
إِلَيْهِمْ فَقَالَ: [يَا فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ وَيا فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ هَلْ
وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا
وَعَدَنِي اللهُ حَقًّا].
__________
(1) رواه البخاري - انظر الفتح: 6( 2).
(2) حديد البصر: أي نافذه ومنه قوله تعالى: ( فبصرك اليوم حديد ).
(1/54)
قَالَ
عُمَرُ: يَارَسُولَ اللهِ كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لاَ أَرْوَاحَ فِيهَا؟
قَالَ: [مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ(1) . غَيْرَ أَنَّهُمْ
لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا](2) .
الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ:
__________
(1) ما أنتم بِأَسْمَعَ لِمَا أقول منهم: قال المازري: قال بعض الناس: الميت يسمع،
عملا بظاهر هذا الحديث . ثم أنكره المازري وادعى أن هذا خاص في هؤلاء . ورد عليه
القاضي عياض وقال: يحتمل سماعهم على ما يحتمل عليه سماع الموتى في أحاديث عذاب
القبر وفتنته التي لا مدفع لها . وذلك بإحيائهم أو إحياء جزء منهم يعقلون به
ويسمعون في الوقت الذي يريد الله تعالى . قال النووي بعد ذكره للكلام السابق: هذا
كلام القاضي، وهو الظاهر المختار الذي تقتضيه أحاديث السلام على القبور.انظر شرح
النووي على صحيح مسلم (7/6، 7)
(2) رواه مسلم برقم (3)
(1/55)
-
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَنَّ رَسُولَ
اللهِ J الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فاقْتَتَلُوا. فَلَمَّا مَالَ
رَسُولُ اللهِ J إِلَى عَسْكَرِهِ. وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ. وَفِي
أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ J رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً(1) إِلاَّ اتَّبَعَهَا
يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ. فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا
أَجْزَأَ فُلاَنٌ(2) . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: أَمَا إِنَّهُ
مِنْ أَهْلِ النَّارِ [فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ(3)
أَبَدًا. قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ. كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ. وَإِذَا أَسْرَعَ
أَسْرَعَ مَعَهُ. قَالَ فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا. فَاسْتَعْجَلَ
الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ(4)
. ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى
رَسُولِ اللهِ J فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: [وَمَا ذَاكَ؟
قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: أَنا لَكُمْ بِهِ فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ
حَتَّى جُرِحَ
__________
(1) لا يدع لهم شاذة: الشاذ والشاذة: الخارج والخارجة عن الجماعة. قال القاضي عياض
رحمه الله: أنث الكلمة على معنى النسمة. أو تشبيه الخارج بشاذة الغنم . ومعناه أنه
لا يدع أحدا، على طريق المبالغة . قال ابن الأعرابي: يقال فلان لا يدع شاذة ولا
فاذة، إذا كان شجاعا . لا يلقاه أحد إلا قتله .
(2) ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان: معناه ما أغنى وكفى أحد غناءه وكفايته.
(3) أنا صاحبه: كذا في الأصول . ومعناه أنا أصحبه في خفية، وألازمه لأنظر السبب
الذي به يصير من أهل النار.
(4) ذبابه: ذباب السيف هو طرفه الأسفل . وأما طرفه الأعلى فمقبضه.
(1/56)
جُرْحًا
شَدِيدًا. فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ. فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ
وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ. ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J، عِنْدَ ذَلِكَ: [إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَإِنَّ
الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ](1) .
3قِسْمٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ:
وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ J مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ زِيَادَةً عَلَى مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ
الْعَزِيزِ فَوَقَعَ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا أَخْبَرَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَالأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْقِسْمِ بَحْرٌ لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَلاَ
يُنْزَفُ(2) غَمْرُهُ(3) اعْتَنَى بِذِكْرِهَا عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ الأَئِمَّةِ
الأَعْلاَمِ كَالْبَيْهَقِيِّ فِي [دَلاَئِلِ النُّبُوَّةِ] وَابْنِ كَثِيرٍ فِي
[الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ] وَالسُّيُوطِيِّ فِي الْخَصَائِصِ الْكُبْرَى].
وَنَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ النَّمَاذِجِ مِنْهَا:
ظُهُورُ الإِسْلاَمِ وَعُلُوُّهُ:
__________
(1) رواه البخاري ـ انظر الفتح (6/5)، حديث رقم (8) ومسلم برقم (2).
(2) لا ينزف: لا يفنى.
(3) غمره: بفتح الغين المعجمة وسكون الميم هو الماء الكثير جدا.
(1/57)
-
فَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: [شَكَوْنَا إِلَى
رَسُولِ اللهِ J وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا
لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللهَ لَنَا؟ قَالَ: كَانَ
الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ،
فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ،
وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا
دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.
وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ
إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ
تَسْتَعْجِلُونَ](1) .
وَهَكَذَا وَقَعَ فَقَدْ عَمَّ وَظَهَرَ الدِّينُ وَغَلَبَ وَعَلاَ عَلَى سَائِرِ
الأَدْيَانِ، فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَعَلَتْ كَلِمَتُهُ فِي
عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَذَلَّتْ لَهُمْ سَائِرُ الْبِلاَدِ
وَدَانَ لَهُمْ جَمِيعُ أَهْلِهَا عَلَى اخْتِلاَفِ أَصْنَافِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ
وَصَارَ النَّاسُ إِمَّا مُؤْمِنٌ دَاخِلٌ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا مُهَادِنٌ
بَاذِلٌ الطَّاعَةَ وَالْمَالَ وَإِمَّا مُحَارِبٌ خَائِفٌ وَجِلٌ مِنْ سَطْوَةِ
الإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ.
مُلْكُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ J وَمَمَالِكُهَا:
__________
(1) رواه البخاري -انظر الفتح: 6(2).
(1/58)
-
عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ J: إِنَّ اللهَ
زَوَى(1) لِيَ الأَرْضَ. فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا. وَإِنَّ
أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا. وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ
الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ(2) إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِي أَنْ لاَ
يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ. وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ
سِوَى أَنْفُسِهِمْ. فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ(3) . وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا
مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ. وَإِنِّي
أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ(4) . وَأَنْ لاَ
يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ. يَسْتَبِيحُ
بَيْضَتَهُمْ. وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا أَوْ قَالَ مَنْ
بَيْنَ أَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي
بَعْضُهُمْ بَعْضًا](5) .
__________
(1) زوى: معناه جمع.
(2) الكنزين الأحمر والأبيض: المراد بالكنزين الذهب والفضة . والمراد بكنزي كسرى
وقيصر، ملكي العراق والشام .
(3) فيستبيح بيضتهم: أي جماعتهم وأصلهم . والبيضة أيضا: العز والملك.
(4) أن لا أهلكهم بسنة عامة: أي لا أهلكهم بقحط يعمهم . بل إن وقع قحط فيكون في
ناحية يسيرة، بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام.
(5) رواه مسلم برقم (9).
(1/59)
-
وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ
النَّبِيِّ J إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ
آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ: يَاعَدِيُّ، هَلْ رَأَيْتَ
الْحِيرَةَ؟ قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا. قَالَ: فَإِنْ
طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ(1) تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ
حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ قُلْتُ فِيمَا
بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ(2) طَيِّءٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا
الْبِلاَدَ(3)؟ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى.
قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ قَالَ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ. وَلَئِنْ طَالَتْ
بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ
فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلاَ يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ.
وَلَيَلْقَيَنَّ اللهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ فَلَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولاً
فَيَبُلِّغَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. فَيقُولُ: أَلَمْ أُعْطِكَ مَالاً وَأُفْضِلْ
عَلَيْكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ
جَهَنَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ جَهَنَّمَ. قَالَ
عَدِيٌّ سَمِعْتُ النَّبِيَّ J يَقُولُ: اتَّقُوا
__________
(1) الظعينة: المرأة ما دامت في الهودج، هذا هو الأصل، ثم سميت به المرأة ظعينة
وإن لم تكن في هودج ولا مسافرة.
(2) الدعار: بالدال المهملة: قطاع الطريق، والذين يخيفون الناس في مقاصدهم، وأصل
الدعر: الفساد.
(3) سعروا البلاد: ملؤوها شرا وفسادا، مأخوذ من استعار النار، وهو إيقادها
والتهابها. انظر في ذلك جامع الأصول (1/5)،
(1/60)
النَّارَ
وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ
طَيِّبَةٍ. قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ
حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ إِلاَّ اللهَ، وَكُنْتُ فِيمَنِ
افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ
لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ J: يُخْرِجُ مِلْءَ
كَفِّهِ](1)
- وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ J: [يُفْتَحُ الشَّامُ فَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ قَوْمٌ
بِأَهْلِيهِمْ يَبِسُّونَ(2)وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ ثُمَّ يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ قَوْمٌ
بِأَهْلِيهِمْ يَبِسُّونَ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
ثُمَّ يُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ قَوْمٌ بِأَهْلِيهِمْ
يَبِسُّونَ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(3).
__________
(1) رواه البخاري - انظر الفتح 6(5).
(2) يبسون: قال أهل اللغة: يبِسُّون . ويقال أيضا: يبسون . فتكون اللفظة ثلاثية
ورباعية فحصل في ضبطه ثلاثة أوجه. ومعناه يتحملون بأهليهم . وقيل معناه يدعون
الناس إلى بلاد الخصب . وهو قول إبراهيم الحربي. وقال أبو عبيد: معناه يسوقون .
والبس سوق الإبل . وقال ابن وهب: معناه يزينون لهم البلاد ويحببونها اليهم
ويدعونهم إلى الرحيل إليها.
انظر شرح النووي على صحيح مسلم (9/8، 9).
(3) رواه مسلم برقم (8).
(1/61)
-
عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ J: [إِنَّكُمْ
سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ. وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا القِيرَاطُ(1) . فَإِذَا
فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا. فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً(2)
وَرَحِمًا(3) أَوْ قَالَ: [ذِمَّةً وَصِهْرًا(4) . فَإِذَا رَأَيْتَ رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ
فِيهَا فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَاخْرُجْ مِنْهَا] قَالَ: فَرَأَيْتُ
عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ وَأَخَاهُ رَبِيعَةَ،
يَخْتَصِمَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَخَرَجْتُ مِنْهَا](5) .
__________
(1) القيراط: قال العلماء: القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما . وكان
أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به .
(2) ذمة: الذمة هي الحرمة والحق . وهي هنا بمعنى الذمام.
(3) ورحما: الرحم لكون هاجر، أم إسماعيل، منهم.
(4) وصهرا: الصهر لكون مارية، أم إبراهيم، منهم.
انظر في ذلك شرح النووي على صحيح مسلم (6/7).
(5) رواه مسلم برقم (3).
(1/62)
-
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ J قَالَ: لاَ تَقُومُ
السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاقِ، أَوْ بِدَابِقَ(1).
فَيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ. مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ
يَوْمَئِذٍ. فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتِ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الَّذِينَ سَبَوْا(2) مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ. فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لاَ.
واللهِ لاَ نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا. فَيُقَاتِلُونَهُمْ.
فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لاَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا(3) . وَيُقْتَلُ
ثُلُثُهُمْ. أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ. وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ. لاَ
يُفْتَنُونَ أَبَدًا: فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ. فَبَيْنَمَا هُمْ
يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ، قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ، إِذْ
صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَّفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ.
فَيَخْرُجُونَ. وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا
هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ، يُسَوُّونَ الصّفُوفَ، إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ.
فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ J، فَأَمَّهُمْ.
فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ. فَلَوْ
تَرَكَهُ لانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ. وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللهُ بِيَدِهِ.
فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ](4) .
__________
(1) بالأعماق أو بدابق: موضعان بالشام، بقرب حلب..
(2) سبوا: قال النووي رحمه الله: روى سبوا على وجهين: فتح السين والباء وضمهما .
قال القاضي في المشارق: الضم رواية الأكثرين . قال: وهو الصواب . قلت: كلاهما صواب
لأنهم سبوا . أولا ثم سبوا الكفار .انظر شرح النووي على صحيح مسلم (8/1) .
(3) لا يتوب الله عليهم أبدا: أي لا يلهمهم التوبة .
(4) رواه مسلم برقم (7)
(1/63)
-
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ J إِذَا هَلَكَ
كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ
بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي
سُبُلِ اللهِ](1) .
- عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ J: هَلْ لَكُمْ مِنْ
أَنْمَاطٍ(2)؟ قُلْتُ: وَأَنَّى يَكُونُ لَنَا الأَنْمَاطُ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ
سَتَكُونُ لَكُمُ الأَنْمَاطُ. فَأَنَا أَقُولُ لَهَا يَعْنِي امْرَأَتَهُ
أَخِّرِي عَنَّا أَنْمَاطَكِ، فَتَقُولُ: أَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ J: إِنَّهَا
سَتَكُونُ لَكُمُ الأَنْمَاطُ، فأَدَعُهَا](3).
__________
(1) رواه البخاري - انظر الفتح: 6(8) ومسلم برقم (9)
(2) أنماط: الأنماط جمع نمط وهو من البسط معروف .انظر جامع الأصول (1/9). وقد
قال له النبي J: [ذلك عندما تزوج].
(3) رواه البخاري - انظر الفتح 6(1) . ومسلم برقم (3)
(1/64)
عَنْ
سُفَيْنَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ J؛ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ J: الْخِلاَفَةُ فِي أُمَّتِي ثَلاَثُونَ(1) سَنَةً ثُمَّ مُلْكًا
بَعْدَ ذَلِكَ].(2) .
بِشَارَاتٌ لِبَعْضِ الأَصْحَابِ:
أ - أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ:
__________
(1) وقد وقع ذلك كما أخبر الصادق المصدوق صلى وسلم . قال الحافظ ابن كثير: وهكذا
وقع سواء، فإن أبا بكر رضي الله عنه كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليال،
وكانت خلافة عمر عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة إلا
اثنى عشر يوما، وكانت خلافة علي بن أبي طالب خمس سنين إلا شهرين . وتكميل الثلاثين
بخلافة الحسن بن علي نحوا من ستة أشهر، حتى نزل عنها لمعاوية عام أربعين من الهجرة
- انظر البداية والنهاية (6/4، 5)
(2) رواه أبو داود برقم (6) . والترمذي برقم (6). والإمام أحمد في المسند
(5/0- 1)، والحاكم في المستدرك(3/1) وصححه ووافقه الذهبي وقال الحافظ
ابن حجر في الفتح(3/5): أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره.
(1/65)
-
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ J كَانَ يَدْخُلُ
عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ(1) فَتُطْعِمُهُ. وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ
تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ J يَوْمًا
فَأَطْعَمَتْهُ. ثُمَّ جَلَسَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ. فَنَامَ رَسُولُ اللهِ J، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ
وَهُوَ يَضْحَكُ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَارَسُولَ اللهِ؟ قَالَ:
نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ. يَرْكَبُونَ
ثَبَجَ(2) هَذَا الْبَحْرِ. مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ
عَلَى الأَسِرَّةِ(3) . (يَشُكُّ أَيَّهُمَا قَالَ). قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللهَ ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَدَعَا لَهَا. ثُمَّ وَضَعَ
رَأْسَهُ فَنَامَ. ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ. قَالَتْ فَقُلْتُ: مَا
يُضْحِكُكَ يَارَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: [نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ
غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، كَمَا قَالَ فِي الأُولَى. قَالَتْ فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: أَنْتِ مِنَ
الأَوَّلِينَ].
__________
(1) أم حرام بنت ملحان: اتفق العلماء على أنها كانت محرما له J . واختلفوا في
كيفية ذلك . فقال ابن عبدالبر وغيره: كانت إحدى خالاته من الرضاعة . وقال آخرون:
بل كانت خالة لأبيه أو لجده . لأن عبد المطلب كانت أمه من بني النجار..
(2) ثبج: هو ظهره ووسطه .
(3) مثل الملوك على الأسرة: قيل: هو صفة لهم في الآخرة، إذا دخلوا الجنة . والأصح
أنه صفة لهم في الدنيا أي يركبون مراكب الملوك لسعة حالهم واستقامة أمرهم وكثرة
عددهم
(1/66)
فَرَكبَتْ
أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ الْبَحْرَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ(1)، فَصُرِعَتْ
عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ. فَهَلَكَتْ](2).
ب- عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ:
__________
(1) في زمن معاوية: قال القاضي: قال أكثر أهل السير والأخبار . إن ذلك كان في
خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه . وفيها ركبت أم حرام وزوجها إلى قبرس فصرعت عن
دابتها هناك . فتوفيت ودفنت هناك . وعلى هذا يكون قوله: في زمان معاوية معناه في
زمان غزوه في البحر، لا في أيام خلافته.
انظر في ذلك شرح النووي على صحيح مسلم (3/7).
(2) رواه البخاري انظر الفتح:6(8، 9) ومسلم برقم (2).
(1/67)
-
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ عَنِ النَّبِيِّ J، قَالَ: [عُرِضَتْ
عَلَيَّ الأُمَمُ. فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ(1) وَالنَّبِيُّ
وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلاَنِ. وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ. إِذْ
رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي. فَقِيلَ لِي: هَذَا
مُوسَى J وَقَوْمُهُ. وَلَكِنِ انْظُرُ إِلَى الأُفُقِ. فَنَظَرْتُ.
فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ الآخَرِ. فَإِذَا
سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ. وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَعَذَابٍ، ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ
مَنْزِلَهُ. فَخَاضَ(2) النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ
صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ J. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي
الإِسْلاَمِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ. وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ. فَخَرَحَ
عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ J فَقَالَ: مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟ [فأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ:
[هُمُ الَّذِينَ لاَ يَرْقُونَ. وَلاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ.
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. فَقَالَ:
ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: أَنْتَ مِنْهُمْ] ثُمَّ قَامَ
رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: سَبَقَكَ
بِهَا عُكَّاشَةُ](3).
جـ- أُمُّ وَرَقَةَ بِنْتُ نَوْفَلٍ:
__________
(1) الرهيط: تصغير رهط وهو الجماعة دون العشرة .
(2) فخاض الناس: أي تكلموا وتناظروا .
(3) رواه البخاري - انظر الفتح 0(2) . ومسلم برقم (0).
(1/68)
وَعَنْ
أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ نَوْفَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ J لَمَّا غَزَا
بَدْرًا قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: يَارَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي فِي الْغَزْوِ
مَعَكَ أُمَرِّضُ مَرْضَاكُمْ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِيَ شَهَادَةً قَالَ:
[قَرِّي فِي بَيْتِكِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَرْزُقُكِ الشَّهَادَةَ] قَالَ:
فَكَانَتْ تُسَمَّى الشَّهِيدَةَ، قَالَ: وَكَانَتْ قَدْ قَرَأَتِ الْقُرْآنَ
فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ J أَنْ تَتَّخِذَ فِي
دَارِهَا مُؤَذِّنًا، فَأَذِنَ لَهَا، قَالَ: وَكَانَتْ قَدْ دَبَّرَتْ غُلاَمًا
لَهَا وَجَارِيَةً(1) فَقَامَا إِلَيْهَا بِاللَّيْلِ فَغَمَّاهَا بِقَطِيفَةٍ
لَهَا حَتَّى مَاتَتْ وَذَهَبَا، فَأَصْبَحَ عُمَرُ فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ:
مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَيْنِ عِلْمٌ، أَوْ مَنْ رَآهُمَا فَلْيَجِيءْ
بِهِمَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَصُلِبَا فَكَانَا أَوَّلَ مَصْلُوبٍ
بِالْمَدِينَةِ](2) وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ فِي آخِرِهِ؛ فَقَالَ عُمَرُ:
صَدَقَ رَسُولُ اللهِ J كَانَ يَقُولُ: انْطِلَقُوا بِنَا نَزُورُ الشَّهِيدَةَ].
- أَمَارَاتُ السَّاعَةِ:
__________
(1) دبرت غلاما وجارية: أي علقت عتقهما على موتها، وهو أن يقول السيد لعبده: أنت
حر بعد موتي . انظر عون المعبود(2/0).
(2) رواه أبو داود برقم (1) . والإمام أحمد في مسنده (6/5)، والبيهقي في
"دلائل النبوة" (6/1) وحسنه الألباني انظر صحيح سنن أبي داود برقم
(2).
(1/69)
-
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: [أَتَيْتُ النَّبِيَّ J فِي غَزْوَةِ
تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَال: [اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ
السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ(1)
يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ(2)، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى
يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لاَ يَبْقَى
بَيْتٌ فِي الْعَرَبَ إِلاَّ دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدَنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ
غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا](3).
فَهَذِهِ عَلاَمَاتٌ أَخْبَرَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ J تَقَعُ قَبْلَ
قِيَامِ السَّاعَةِ:
- مَوْتُهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ.
- وَفَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى يَدَيِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ.
- وَبَاءُ الطَّاعُونِ وَهُوَ طَاعُونُ عَمْوَاسَ وَقَعَ بِالشَّامِ فِي عَهْدِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ
لِلْهِجْرَةِ وَمَاتَ فِيهِ جَمَاعَاتٌ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. مِنْهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
الْجَرَّاحِ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَغَيْرُهُمْ.
__________
(1) موتان: بضم الميم وسكون الواو: قيل هو الموت . وقيل: الموت الكثير انظر فتح
الباري (6/0).
(2) قعاص الغنم: قال ابن الأثير: القعاص بالضم: داء يأخذ الغنم لا يلبثها أن تموت
. انظر النهاية(4/8). وقال الحافظ ابن حجر: هو داء يأخذ الدواب فيسيل من أنوفها
شي ء فتموت فجأة. انظر فتح الباري (6/1).
(3) رواه البخاري - انظر الفتح 6(6).
(1/70)
-
اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ وَهُوَ كَثْرَتُهُ وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي خِلاَفَةِ
الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا
فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْفُتُوحَ الْعَظِيمَةَ(1).
- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ J قَالَ: [لاَ
تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ
أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى(2) ](3).
وَقَدْ خَرَجَتْ هَذِهِ النَّارُ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ كَمَا أَخْبَرَ
النَّبِيُّ J. وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ
عَلَى مُسْلِمٍ(4)، وَالسُّيُوطِيُّ فِي الْخَصَائِصِ الْكُبْرَى(5).
قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَقَدْ خَرَجَتْ فِي زَمَانِنَا نَارٌ
بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَكَانَتْ نَارًا
عَظِيمَةً جِدًّا مِنْ جَنْبِ الْمَدِينَةِ الشَّرْقِيِّ وَرَاءَ الْحَرَّةِ
تَوَاتَرَ الْعِلْمُ بِهَا عِنْدَ جَمِيعِ الشَّامِ وَسَائِرِ الْبُلْدَانِ
وَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ(6).
__________
(1) انظر: فتح الباري (6/1).
(2) بصرى: بضم الموحدة وسكون المهملة مقصور: مدينة معروفة بالشام وهي مدينة حوران
بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل.انظر شرح النووي على مسلم (8/0)، فتح الباري(3/6)
(3) رواه البخاري - انظر الفتح 3(8) . ومسلم برقم (2).
(4) شرح النووي على صحيح مسلم (8/8).
(5) الخصائص الكبرى للسيوطي (2/6).
(6) شرح النووي على صحيح مسلم (8/8).
(1/71)
وَقَالَ
الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ أَبُو شَامَةَ فِي ذَيْلِ الرَّوْضَتَيْنِ
[وَرَدَتْ فِي أَوَائِلِ شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ كُتُبٌ مِنَ
الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ فِيهَا شَرْحُ أَمْرٍ عَظِيمٍ حَدَثَ بِهَا فِيهِ
تَصْدِيقٌ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، قَالَ:
فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ مَنْ أَثِقُ بِهِ مِمَّنْ شَاهَدَهَا أَنَّهُ بَلَغَهُ
أَنَّهُ كَتَبَ بِتَيْمَاءَ عَلَى ضَوْئِهَا الْكُتُبَ، فَمِنَ الْكُتُبِ...
فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ](1) .
- إِفْحَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ:
كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ كَثِيرًا مَا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ J عَنْ أَشْيَاءَ
عَلَى سَبِيلِ الامْتِحَانِ وَالتَّعْجِيزِ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْهِدَايَةِ
وَالاِنْصِيَاعِ لِلْحَقِّ فَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فَكَانَ رَسُولُ
اللهِ J يُورِدُ الْجَوَابَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَأْتِي بِهِ عَلَى نَصِّهِ
كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَدَيْهِمُ وَمُقَرَّرٌْ فِي كُتُبِهِمْ.
وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ أُمِّيٌّ لاَ
يَقْرَأُ وَلاَ يَكْتُبُ وَلاَ اشْتَغَلَ بِمُدَارَسَةٍ وَلَمْ يَتَلَقَّ
الْعِلْمَ عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحْكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَحِرْصِهِمْ عَلَى
تَكْذِيبِهِ وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ لَهُ وَتَعَنُّتِهِمْ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُ
أَنْكَرَ عَلَى رَسُولِ اللهِ J جَوَابَهُ أَوْ
كَذبَهُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ صَرَّحَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِ مَقَالَتِهِ،
وَالْمُكَابِرُ مِنْهُمُ اعْتَرَفَ بِعِنَادِهِ وَحَسَدِهِ لِرَسُولِ اللهِ J.
__________
(1) فتح الباري (3/5)
(1/72)
وَهَا
هِيَ بَعْضُ النَّمَاذِجِ الَّتِي سُئِلَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ J. فَأَجَابَ بِمَا
طَابَقَ الْحَقَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ:
- فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: [بَلَغَ عَبْدَ اللهِ
بْنَ سَلاَمٍ مَقْدِمُ النَّبِيِّ J الْمَدِينَةَ.
فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ
نَبِيٌّ، قَالَ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ(1) السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ
يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ(2) الْوَلَدُ إِلَي
أَبِيهِ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: خَبَّرَنِي
بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ. قَالَ فَقَالَ عَبْدُاللهِ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ
مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: [أَمَّا أَوَّلُ
أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى
الْمَغْرَبِ. وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ
كَبِدِ حُوتٍ وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ
الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا
كَانَ الشَّبَهُ لَهَا.
__________
(1) الأشراط: العلامات، وأشراط الساعة: العلامات التي تتقدمها . مثل خروج الدجال،
وطلوع الشمس من المغرب.
(2) ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه: إذا جاء يشبه أحدهما.
(1/73)
قَالَ:
أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. ثُمَّ قَالَ: يَارَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْيَهُودَ
قَوْمٌ بُهْتٌ(1)، إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلاَمِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ
بَهَتُونِي عِنْدَكَ. فَجَاءَتِ الْيَهُودُ، وَدَخَلَ عَبْدُاللهِ الْبَيْتَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ؟ قَالُوا
أَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا، وَأَخْبَرُنَا وَابْنُ أَخْبَرِنَا. فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ J: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُاللهِ؟ قَالُوا: أَعَاذَهُ
اللهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُاللهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. فَقَالُوا:
شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا. وَوَقَعُوا فِيهِ](2) .
__________
(1) قوم بهت: بهت فلان فلانا: إذا كذب عليه، فهو باهت، وقوم بهت . أفاد ذلك ابن
الأثير رحمه الله في كتابه جامع الأصول (1/3).
(2) رواه البخاري - انظر الفتح 6(9)
(1/74)
-
عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ
اللهِ J. فَجَاءَ حِبْرُ(1) مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ:
السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا.
فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ: أَلاَ تَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ
الْيَهُودِيُّ؛ إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: إِنَّ اسْمِيَ مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي
[فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ J: [أَيَنْفَعُكَ
شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟] قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ. فَنَكَتَ(2) رَسُولُ
اللهِ J بِعُودٍ مَعَهُ فَقَالَ: سَلْ] فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْنَ
يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: [هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الجِسْرِ(3) ] قَالَ: فَمَنْ
أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً(4)، قَالَ: [فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ] قَالَ
الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ(5) حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ:
زِيَادَةُ كَبِدِ النُّون(6) قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ(7) عَلَي إِثْرِهَا؟
__________
(1) حبر: قال في المصباح: الحبر، بالكسر، العالم . والجمع أحبار . مثل حمل وأحمال
. والحبر، بالفتح، لغة فيه . وجمعه حبور، مثل فلس وفلوس .
(2) فنكت: معناه يخط بالعود في الأرض ويؤثر به فيها . وهذا يفعله المفكر .
(3) الجسر: بفتح الجيم وكسرها، لغتان مشهورتان، والمراد به هنا الصراط.
(4) إجازة: الإجازة هنا بمعنى الجواز والعبور.
(5) تحفتهم: بإسكان الحاء وفتحها، لغتان . وهي ما يهدى إلى الرجل ويخص به ويلاطف .
(6) النون: النون هو الحوت. وجمعه نينان .
(7) غذاؤهم: روي على وجهين: غذاؤهم وغداؤهم . قال القاضي عياض: هذا الثاني هو
الصحيح، وهو رواية الأكثرين.
(1/75)
قَالَ:
[يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا]
قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: [مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى
سَلْسَبِيلاً(1) ] قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لاَ
يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ. إِلاَّ نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ
رَجُلاَنِ. قَالَ: [يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟] قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ
قَالَ جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ؟ قَالَ: مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ
الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ. فَإِذَا اجْتَمَعَا، فَعَلاَ مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ
الْمَرْأَةِ، أَذْكَرَا(2) بِإِذْنِ اللهِ. وَإِذَا عَلاَ مَنِيُّ الْمَرْأَةِ
مَنِيَّ الرَّجُلِ، آنَثَا(3) بِإِذْنِ اللهِ قَالَ الْيَهُودِيُّ: لَقَدْ
صَدَقْتَ. وَإِنَّكَ لَنَبِيُّ. ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ J: [لَقَدْ سَأَلَنِي
هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ. وَمَا لِيَ عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ. حَتَّى
آتَانِيَ اللهُ بِهِ(4).(5).
__________
(1) سلسبيلاً: قال جماعة من أهل اللغة والمفسرين: السلسبيل اسم للعين . وقال مجاهد
وغيره: هي شديدة الجري وقيل هي السلسلة اللينة .
(2) أذكرا: أي كان الولد ذكرا .
(3) آنثا: أي كان الولد أنثى، وقد روي أنثا .
(4) انظر في ذلك شرح النووي على صحيح مسلم (3/226، 227،228).
(5) رواه مسلم برقم (315).
(1/76)
-
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ يَهُودِيٌّ
لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ. فَقَالَ صَاحِبُهُ: لاَ تَقُلْ
نَبِيٌّ، إِنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ، فَأَتَيَا
رَسُولَ اللهِ J فَسَأَلاَهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ. فَقَالَ لَهُمْ: لاَ
تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَلاَ تَمْشُوا بِبَرِيءٍ
إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلاَ تَسْحَرُوا، وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا،
وَلاَ تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلاَ تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ(1)،
وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةَ الْيَهُودِ أَنْ لاَ تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ، قَالَ:
فَقَبَّلُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ. فَقَالاَ: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ. قَالَ فَمَا
يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالُوا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لاَ
يَزَالَ فِي ذُرِّيَتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ تَبِعْنَاكَ أَنْ
تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ](2) .
__________
(1) الزحف : القتال والمراد به :الجهاد في سبيل الله.
(2) رواه الترمذي برقم (3) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي (7/1) .
ورواه الإمام أحمد في مسنده (4/0)، والحاكم في المستدرك (1/9) وقال: هذا
حديث صحيح لا نعرف له علة بوجه من الوجوه ولم يخرجاه ووافقه الذهبي .
========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق