تضرع ودعاء

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

لمن تكون الشفاعة

لمن تكون الشفاعة

 https://thelowofalhak.blogspot.com/2018/11/pdf.html

الخميس، 24 فبراير 2022

العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لابن العربي

العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لابن العربي
 
 
  
محتويات
1 (مقدمة)
2 قاصمة الظهر
3 عاصمة
4 قاصمة
5 عاصمة
6 عاصمة
7 قاصمة
8 عاصمة
9 قاصمة التحكيم
10 عاصمة
11 قاصمة
12 عاصمة
13 قاصمة
14 عاصمة
15 نكتة
16 نكتة
17 قاصمة
18 عاصمة
19 هامش

(مقدمة)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على محمد وآله
قال صالح بن عبد الملك بن سعيد:
قرأت على الإمام محمد أبي بكر بن العربي رضي الله عنه قال:
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم نستمد بك المنحة، كما نستدفع بك المحنة، ونسألك العصمة، كما نستوهب منك الرحمة.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ويسر لنا العلم كما علمتنا، وأوزعنا شكر ما آتيتنا، وانهج لنا سبيلا يهدي إليك إليك، وأنت على كل شيء قدير.
قاصمة الظهر
بعد أن استأثر الله بنبيه ﷺ وقد أكمل له ولنا دينه، وأتم عليه وعلينا نعمته، كما قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} وما من شئ في الدنيا يكمل إلا وجاءه النقصان، ليكون الكمال الذي يراد به وجه الله خاصة، وذلك العمل والدار الآخرة، فهي دار الله الكاملة. قال أنس: " ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله ﷺ حتى أنكرنا قلوبنا ".
واضطربت الحال، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة أبي بكر، فكان موت النبي ﷺ قاصمة الظهر ومصيبة العمر:
فأما علي فاستخفى في بيته مع فاطمة وأما عثمان فسكت.
وأما عمر فأهجر وقال: « ما مات رسول الله ﷺ، وإنما واعده الله كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله ﷺ فليقطعن أيدي الناس وأرجلهم.»
وتعلق بآل العباس وعلي بأمر أنفسهما في مرض النبي ﷺ، فقال العباس لعلي: « إني أرى الموت في وجوه بني عبدالمطلب، فتعال حتى نسأل رسول الله ﷺ، فإن كان هذا الأمر فينا علمناه.»
وتعلق بال العباس وعلي بميراثهما فيما تركه النبي ﷺ من فدك وبني النضير وخيبر.
واضطرب أمر الأنصار يطلبون الأمر لأنفسهم، أو الشركة فيه مع المهاجرين.
وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع أسامة بن زيد بالجرف.
عاصمة
فتدارك الله الإسلام والأنام وانجابت الغمة انجياب الغمام، ونفذ وعد الله باستئثار رسول الله وإقامة دينه على التمام، وإن كان قد أصاب ما أصاب من الرزية الإسلام بأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وكان إذ مات النبي ﷺ غائبا في ماله بالسنح، فجاء إلى منزل ابنته عائشة رضي الله عنها وفيه مات النبي ﷺ فكشف عن وجهه، وأكب عليه يقبله وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبت حيا وميتا والله لا يجمع الله عليك الموتتين، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها. ثم خرج إلى المسجد والناس فيه، وعمر يأتي بهجر من القول كما قدمنا فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ". ثم قرأ { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } " [1] فخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها لم تنزل إلا ذلك اليوم.
واجتمعت الأنصار في سقيفة بين ساعدة يتشاورون ولا يدرون ما يفعلون، و بلغ ذلك المهاجرين فقالوا: نرسل إليهم يأتوننا، فقال أبو بكر بل نمشي إليهم. فسار إليهم المهاجرون، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فتراجعوا الكلام، فقال بعض الإنصار: منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر كلاما كثيرا مصيبا، يكثر ويصيب، منه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، إن رسول الله ﷺ قال: " الأئمة من قريش " وقال: " أوصيكم بالأنصار خيرا: أن تقبلوا من محسنهم، وتتجاوزوا عن مسيئهم". إن الله سمانا الصادقين وسماكم المفلحين[2] وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا فقال: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } [3] إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة والأدلة القوية، فتذكر الأنصار ذلك وانقادت إليه، وبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
وقال أبو بكر لأسامة: انفذ لأمر رسول الله ﷺ، فقال عمر: كيف ترسل هذا الجيش والعرب قد اضطربت عليك؟ فقال: لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة، ما رددت جيشا أنفذه رسول الله ﷺ.
وقال له عمر وغيره: إذا منعك العرب الزكاة فاصبر عليهم. فقال: « والله لو منعوني عقالا بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه. والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة »
قيل ومع من تقاتلهم؟ قال: « وحدي، حتى تنفرد سالفتي »
وقدم الأمراء على الأجناد والعمال في البلاد مختارا لهم، مرتئيا فيهم، فكان ذلك من أسدّ عمله، وأفضل ما قدمه للإسلام.
وقال لفاطمة وعلي والعباس: إن رسول الله ﷺ قال « لا نورث ما تركناه صدقة.» فذكر الصحابة ذلك
وقال سمعته ﷺ يقول: «لا يدفن نبي إلا حيث يموت » وهو في ذلك كله رابط الجأش ثابت العلم والقدم في الدين.
ثم استخلف عمر، فظهرت بركة الإسلام، ونفذ الوعد الصادق في الخليفتين [4]
ثم جعلها عمر شورى، فأخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الأمر حتى ينظر ويتحرى فيمن يقدم قدم عثمان، فكان عند الظن به: ما خالف له عهدا، ولا نكث عقدا، ولا اقتحم مكروها ولا خالف سنة.
وقد كان النبي ﷺ أخبر بأن عمر شهيد، وبأن عثمان شهيد، وبأن له الجنة على بلوى تصيبه.
وهو وزوجه رقية ابنة رسول الله ﷺ أول مهاجر بعد إبراهيم الخليل ﷺ، دخل به في باب " أول من... " [5] وهو علم كبير جمعه الناس.
ولما صحت إمامته قتل مظلوما، وليقضي الله أمرا كان مفعولا.
ما نصب حربا، ولا جيّش عسكرا ولا سعى إلى فتنة، ولا دعا إلى بيعة، ولا حاربه ولا نازعه من هو من أضرابه ولا أشكاله ولا كان يرجوها لنفسه، ولا خلاف أنه ليس لأحد أن يفعل ذلك في غير عثمان، فكيف بعثمان رضي الله عنه.
وقد سموا من قام عليه، فوجدناهم أهل أغراض سوء حيل بينهم وبينها فوعظوا وزجروا، وأقاموا عند عبد الرحمن بن خالد ابن الوليد، وتوعدهم حتى تابوا، فأرسل بهم إلى عثمان فتابوا وخيرهم فاختاروا التفرق في البلاد، فأرسلهم: فلما سار كل إلى ما اختار أنشأوا الفتنة، وألبوا الجماعة، وجاءوا إليه بجملتهم، فاطلع عليهم من حائط داره وذكرهم، وورعهم عن دمه، وخرج طلحة يبكي ويورع الناس، وأرسل علي ولديه، وقال الناس لهم: إنكم أرسلتم إلينا " أقبلوا إلى من غير سنة الله " [6]، فلما جئنا قعد هذا في بيته يعنون عليا وخرجت أنت [7]، تفيض عينيك، والله لا برحنا حتى نريق دمه.
وهذا قهر عظيم وافتئات على الصحابة وكذب في وجوههم وبهت لهم، ولو أراد عثمان لكان مستنصرا بالصحابة، ولنصروه في لحظة، وإنما جاء القوم مستجيرين متظلمين، فوعظوهم فاستشاطوا، فأراد الصحابة ألهم [8]، فأوعز إليهم عثمان ألا يقاتل أحد بسببه أبدا، فاستسلم وأسلموه برضاه.
وهي مسألة من الفقه كبيرة: هل يجوز للرجل أن يستسلم، أم يجب عليه أن يدافع عن نفسه؟ وإذا استسلم وحرم على أحد أن يدافع عنه بالقتل، هل يجوز لغيره أن يدافع عنه ولا يلتفت إلى رضاه؟ اختلف العلماء فيها. فلم يأت عثمان منكرا لا في أول الأمر ولا في آخره، ولا جاء الصحابة بمنكر، وكل ما سمعت من خبر باطل إياك أن تلفت إليه.
قاصمة
قالوا متعدين، متعلقين برواية كذابين: جاء عثمان في ولايته بمظالم ومناكير، منها:
ضربه لعمار حتى فتق أمعاءه
ولابن مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه.
وابتدع في جمع القرآن وتأليفه، وفي حرق المصاحف.
وحمى الحمى.
وأجلى أبا ذر إلى الربذة.
وأخرج من الشام أبا الدرداء.
ورد الحكم بعد أن نفاه رسول الله ﷺ.
وأبطل سنة القصر في الصلوات في السفر.
وولى معاوية، [ وعبدالله بن عامر بن كريز ] ومروان، وولى الوليد بن عقبة وهو فاسق ليس من أهل الولاية.
وأعطى، مروان خمس أفريقية.
وكان عمر يضرب بالدرة وضرب هو بالعصا
وعلا على درجة رسول الله ﷺ وقد انحط عنها أبو بكر وعمر.
ولم يحضر بدرا، وانهزم يوم أحد، وغاب عن بيعة الرضوان.
ولم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان ( الذي أعطى السكين إلى أبي لؤلؤة، وحرضه على عمر حتى قتله ).
وكتب مع عبده على جمله كتابا إلى ابن أبي سرح في قتل من ذكر فيه.
عاصمة
هذا كله باطل سندا ومتنا، أما قولهم " جاء عثمان بمظالم ومناكير" فباطل.
وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور، وضربه لعمار إفك مثله، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبدا
وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن يشتغل بها لأنها مبنية على باطل، ولا يبنى حق على باطل، ولا نذهب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك لا آخر له.
وأما جمع القرآن، فتلك حسنته العظمى وخصلته الكبرى، وإن كان وجدها كاملة، لكنه أظهرها ورد الناس إليها وحسم مادة الخلاف فيها. وكان نفوذ وعد الله بحفظ القرآن على يديه حسبما بيناه في كتب القرآن وغيرها
روى الأئمة بأجمعهم [9] أن زيدا بن ثابت قال: أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: " إن عمر أتانا فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر ". قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ. فتتبع القرآن فاجمعه ". فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمروني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ قال عمر:" هذا والله خير ". فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } حتى خاتمة براءة.
فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر، حتى قدم حذيفة بن اليمان على عثمان [10]، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية مع أهل العراق فحدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: « إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم » ففعلوا.
حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق.
قال ابن شهاب[11]: " وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال: " فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة الأنصاري { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } فألحقناها في سورتها من المصحف "
وأما ما روي أنه حرقها أو خرقها بالحاء المهملة أو الخاء المعجمة وكلاهما جائز إذا كان في بقائها فساد، أو كان فيها ما ليس من القرآن أو ما نسخ منه أو على غير نظمه، فقد سلم في ذلك الصحابة كلهم: إلا أنه روي عن ابن مسعود أنه خطب بالكوفة فقال: " أما بعد، فإن الله قال { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وإني غال مصحفي، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل ". وأراد ابن مسعود أن يؤخذ بمصحفه، وأن يثبت ما يعلم فيه، فلما لم يفعل ذلك قال له ما قال، فأكرهه عثمان على رفع مصحفه، ومحا رسومه لم تثبت له قراءة أبدا، ونصر الله عثمان والحق بمحوها من الأرض.
وأما الحمى، فكان قديما، فيقال إن عثمان زاد فيه لما زادت الرعية وإذا جاز أصله للحاجة جازت الزيادة لزيادة الحاجة.
وأما نفيه أبا ذر إلى الربذة فلم يفعل، كان أبو ذر زاهدا، وكان يقرع عمال عثمان، ويتلو عليهم { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم }، ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم، وهو غير لازم. قال ابن عمر وغيره من الصحابة: إن ما أديت زكاته فليس بكنز، فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام، فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: " لو اعتزلت ". معناه أنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطا وللعزلة مثلها، ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهدا فاضلا، وترك جلة فضلاء، وكل على خير وبركة وفضل، وحال أبي ذر أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا فسبحان مرتب المنازل.
ومن العجب أن يؤخد عليه في أمر فعله عمر، فقد روي أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة بالمدينة حين استشهد، فأطلقهم عثمان، وكان سجنهم لأن القوم أكثروا الحديث عن رسول الله ﷺ. [12]
ووقع بين أبي ذر ومعاوية كلام، وكان أبو ذر يطلق من الكلام ما لم يكن في زمان عمر، فأعلم معاوية بذلك عثمان، وخشي من العامة أن تثور منهم فتنة، فإن أبا ذر كان يحملهم على التزهد وأمور لا يحتملها الناس كلهم، وإنما هي مخصوصة ببعضهم، فكتب إليه عثمان كما قدمنا أن يقدم المدينة، فلما قدم اجتمع إليه الناس، فقال لعثمان: أريد الربذة. فقال له: افعل. فاعتزل. ولم يكن يصلح له إلا ذلك لطريقته.
ووقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام وكان أبو الدرداء زاهدا فاضلا قاضيا لهم فلما اشتد في الحق، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها عزلوه، فخرج إلى المدينة.
وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين، ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال، وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من عاب، وعثمان بريء أعظم براءة وأكثر نزاهة، فمن روى أنه نفى وروى سببا فهو كله باطل.
وأما رد الحكم فلم يصح.
وقال علماؤنا في جوابه. قد كان أذن له رسول الله ﷺ. وقال [ أي عثمان ] لأبي بكر وعمر، فقالا له: إن كان معك شهيد رددناه، فلما ولي قضى بعلمه في رده، وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله ﷺ ولو كان أباه، ولا لينقض حكمه. [13]
وأما ترك القصر فاجتهاد، إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر، وفعلوا ذلك في منازلهم، فرأى أن السنة ربما أدت إلى إسقاط الفريضة، فتركها مصلحة خوف الذريعة مع أن جماعة من العلماء: قالوا إن المسافر مخير بين القصر والإتمام، واختلف في ذلك الصحابة.
وأما معاوية فعمر ولاه وجمع له الشامات كلها، وأقره عثمان. بل إنما ولاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لأنه ولى أخاه يزيد، واستخلفه يزيد، فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتعلق عثمان بعمر وأقره. فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها ولن يأتي أحد مثلها أبدا بعدها.
وأما عبد الله بن [ عامر بن ] كريز فولاه كما قال لأنه كريم العمات والخالات [14]
وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس على فساد النيات أسرعوا إلي السيئات قبل الحسنات. فذكر الافترائيون أنه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به قال عثمان ما وليت الوليد لأنه أخي [15]، وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله ﷺ وتوأمة أبيه. وسيأتي بيانه إن شاء الله.
والولاية اجتهاد وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص وقدم أقل منه درجة.
وأما قول القائلين في مروان والوليد فشديد عليهم وحكمهم عليهما بالفسق فسق منهم
مروان رجل عدل، من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعدي روى عنه [16]. وأما التابعون فأصحابه في السن وان كان جازهم باسم الصحبة في أحد القولين. وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته والتلفت إلى فتواه والانقياد إلى روايته وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم.
وأما الوليد فقد روى بعض المفسرين أن الله سماه فاسقا في قوله {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة } [17] فإنها في قولهم نزلت فيه أرسله النبي ﷺ إلى بني المصطلق فأخبر عنهم أنهم ارتدوا فأرسل رسول الله ﷺ إليهم خالد بن الوليد فتثبت في أمرهم فبين بطلان قوله. وقد اختلف فيه فقيل نزلت في ذلك وقيل في علي والوليد في قصة أخرى. وقيل إن الوليد سيق يوم الفتح في جملة الصبيان إلي رسول الله ﷺ فمسح رؤوسهم وبرك عليهم إلا هو فقال إنه كان على رأسي خلوق فامتنع ﷺ من مسه فمن يكون في مثل هذه السن يرسل مصدقا؟ وبهذا الاختلاف يسقط العلماء الأحاديث القوية، وكيف يفسق رجل يتمثل هذا الكلام؟ فكيف برجل من أصحاب محمد ﷺ؟
وأما حده في الخمر، فقد حد عمر قدامة بن مظعون على الخمر وهو أمير وعزله. ثم قيل إنه صالحه. وليست الذنوب مسقطة للعدالة إذا وقعت منها التوبة. وقد قيل لعثمان إنك وليت الوليد لأنه أخوك لأمك أروى بنت كريز ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس فقال بل لأنه ابن عمة رسول الله ﷺ أم حكيم البيضاء جدة عثمان وجدة الوليد لأمهما أروى المذكورة أم حكيم توأمة عبد الله أبي رسول الله ﷺ. وأي حرج على المرء أن يولي أخاه أو قريبه؟
وأما إعطاؤه خمس أفريقية لواحد فلم يصح على أنه قد ذهب مالك وجماعة إلى أن الإمام يرى في الخمس وينفذ فيه ما أداه إليه اجتهاده، وأن إعطاءه لواحد جائز، وقد بينا ذلك في مواضعه.
وأما قولهم إنه ضرب بالعصا، فما سمعته ممن أطاع أو عصى، وإنما هو باطل يحكى، وزور ينثى، فيا لله وللنهى.
وأما علوه على درجة رسول الله ﷺ فما سمعته ممن فيه تقية [18]. وإنما هي إشاعة منكر، ليروى ويذكر، فيتغير قلب من يتغير. قال علماؤنا: ولو صح ذلك فما في هذا ما يحل دمه، ولا يخلو أن يكون ذلك حقا فلم تنكره الصحابة عليه، إذ رأت جوازه ابتداء أو لسبب اقتضى ذلك. وإن كان لم يكن فقد انقطع الكلام.
واما انهزامه يوم حنين وفراره يوم أحد ومغيبه عن بدر وبيعة الرضوان، فقد بين عبد الله بن عمر وجه الحكم في شأن البيعة وبدر وأحد. وأما يوم حنين فلم يبق إلا نفر يسير مع رسول الله ﷺ. ولكن لم يجر في الأمر تفسير من بقى معه إلا العباس وابناه عبد الله وقثم، فناهيك بهذا الاختلاف، وهو أمر قد اشترك فيه الصحابة، وقد عفا الله ورسوله، فلا يحل ذكر ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون، أخرج البخاري: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله وقال: لعل ذلك يسوؤك؟ قال: نعم. قال: فأرغم الله بأنفك ! ثم سأله عن علي، فذكر محاسن عمله وقال: وهو ذاك بيته أوسط بيوت النبي ﷺ. ثم قال: لعل ذلك يسوؤك؟ قال: أجل. قال « بني الإسلام على خمس » زيادة فيه للبخاري في علي وعثمان. وقد أخرج البخاري أيضا من حديث عثمان بن عبدالله ابن موهب قال: جاء رجل من أهل مصر يريد حج البيت، فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر. قال: يا ابن عمر، إني سائلك عن شيء فحدثني عنه. هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم. فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟: قال: نعم. قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: الله أكبر ! قال ابن عمر: تعال أبين لك. أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله ﷺ وكانت مريضة فقال له رسول الله ﷺ إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه. وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله ﷺ عثمان (وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله ﷺ بيده اليمنى: « هذه يد عثمان » فضرب بها على يده فقال: « هذه لعثمان ». ثم قال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك.
وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان فإن ذلك باطل. فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون والأمر في أوله. وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر، وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه، وكان قتل عبيد الله له عثمان لم يل بعد، ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقا، لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله، وأيضا فإن أحدا لم يقم بطلبه. وكيف يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح؟
وأما تعلقهم بأن الكتاب وجد مع راكب، أو مع غلامه – ولم يقل أحد قط إنه كان غلامه – إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح يأمره بقتل حامليه، فقد قال لهم عثمان: إما أن تقيموا شاهدين على ذلك، وإلا فيميني أنى ما كتبت ولا أمرت. وقد يُكتب على لسان الرجل، ويضرب على خطه، وينقش على خاتمه.
فقالوا لتسلم لنا مروان. فقال: لا أفعل. ولو سلمه لكان ظالما، وإنما عليهم أن يطلبوا حقهم عنده على مروان وسواه، فما ثبت كان هو منفذه وآخذه والممكن لمن يأخذه بالحق. ومع سابقته وفضيلته ومكانته لم يثبت عليه ما يوجب فضلا عن قتله.
وأمثل ما روى في قصته أنه – بالقضاء السابق – تألب عليه قوم لأحقاد اعتقدوها: ممن طلب أمرا فلم يصل إليه، وحسد حسادة أظهر داءها، وحمله على ذلك قلة دين وضعف يقين، وإيثار العاجلة على الآجلة. وإذا نظرت إليهم دللت صريح ذكرهم على دناءة قلوبهم وبطلان أمرهم.
كان الغافقي المصري أمير القوم، وكنانة بن بشر التجيبي وسودان بن حمران وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي. وحكيم بن جبلة من أهل البصرة. ومالك بن الحارث الأشتر في طائفة هؤلاء رؤوسهم، فناهيك بغيرهم.وقد كانوا أثاروا فتنة، فأخرجهم عثمان بالاجتهاد، وصاروا في جماعتهم عند معاوية، فذكرهم بالله وبالتقوى لفساد الحال وهتك حرمة الأمة، حتى قال له زيد صوحان – فيما يروى: « كما تكثر علينا بالإمرة وبقريش، فما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها وقريش تجار ». فقال له معاوية: « لا أم لك. أذكر بالإسلام وتذكرني بالجاهلية ! قبح الله من كثر على أمير المؤمنين بكم، فما أنتم ممن ينفع أو يضر. اخرجوا عني ».
وأخبره ابن الكواء بأهل الفتنة في كل بلد ومؤامرتهم، فكتب إلى عثمان يخبره بذلك، فأرسل إليه بأشخاصهم إليه. فأخرجهم معاوية، فمروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فحسبهم ووبخهم وقال لهم: « اذكروا ما كنتم تذكرون لمعاوية ». وحصرهم وأمشاهم بين يديه أذلاء حتى تابوا بعد حول.
وكتب إلى عثمان بخبرهم، فكتب إليه أن سرحهم إلي. فلما مثلوا بين يديه جددوا التوبة، وحلفوا على صدقهم، وتبرأوا مما نسب إليهم. فخيّرهم حيث يسيرون، فاختار كل واحد ما أراد من البلاد: كوفة وبصرة ومصر، فأخرجهم. فما استقروا في حيث ما ساروا حتى ثاروا وألبوا، حتى انضاف إليهم جمع.
وساروا إليه على أهل مصر عبد الرحمن بن عديس البلوي. وعلى أهل البصرة حكيم بن جبلة، وعلى أهل الكوفة الأشتر مالك ابن الحارث النخعي. فدخلوا المدينة هلال ذي القعدة سنة خمس وثلاثين.
فاستقبلهم عثمان. فقالوا: ادع بالمصحف. فدعا به، فقالوا: افتح التاسعة – يعني يونس – فقالوا: اقرأ. فقرأ حتى انتهى إلى قوله { آلله أذن لكم أم على الله تفترون } قالوا له: قف. قالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى، أذن الله لك أم على الله افتريت؟ قال: امضه، إنما نزلت في كذا. وقد حمى عمر، وزادت الإبل فزدت. فجعلوا يتبعونه هكذا، وهو ظاهر عليهم. حتى قال لهم: ماذا تريدون؟ فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه ستا أو خمسا: أن المنفي يعاد والمحروم يعطي، ويوفر الفئ، ويعدل في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوة. فكتبوا ذلك في كتاب. وأخذ عليهم أن لا يشقوا عصا ولا يفرقوا جماعة. ثم رجعوا راضين. وقيل أرسل إليهم عليا فاتفقوا على الخمس المذكورة، ورجعوا راضين. فبينما هم كذلك، إذا راكب يتعرض لهم. ثم يفرقهم، مرارا قالوا: مالك؟ قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر. ففتشوه، فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه إلى عامل مصر أن يصلبهم ويقطع أيديهم وأرجلهم.
فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا عليا فقالوا له: ألم تر إلى عدو الله. كتب فينا بكذا. وقد أحل الله دمه، قالوا له: فقم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم، قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم، فنظر بعضهم إلى بعض، وخرج علي من المدينة.
فانطلقوا إلى عثمان فقالوا له: كتبت فينا كذا. قال لهم إما أن تقيموا اثنين من المسلمين، أو يميني – كما تقدم ذكره – فلم يقبلوا ذلك منه. ونقضوا عهده وحصروه.
وقد روى أن عثمان جئ إليه بالأشتر، فقال له: يريد القوم منك إما أن تخلع نفسك أو تقص منها أو يقتلوك ! فقال: أما خلعي فلا أترك أمة محمد بعضها على بعض. وأما القصاص فصاحباي قبلي لم يقصا من أنفسهما، ولا يحتمل ذلك بدني.
وروي أن رجلا قال له: نذرت دمك. قال: خذ جنبي. فشرط فيه شرطة بالسيف أراق منه دمه، ثم خرج الرجل وركب راحلته وانصرف في الحين.
ولقد دخل عليه ابن عمر، فقال له عثمان: انظر ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك، قال له ابن عمر: أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا: هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال: لا. قال: هل يملكون لك جنة أو نارا؟ قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عنك، فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه.
وقد أشرف عليهم عثمان، واحتج عليهم بالحديث الصحيح في بنيان المسجد وحفر بئر رومة، وقول النبي ﷺ حين رجف بهم أحد. وأقروا له به في أشياء ذكرها.
وقد ثبت أن عثمان أشرف عليهم وقال: أفيكم ابنا محدوج؟ أنشدكما الله ألستما تعلمان أن عمر قال: إن ربيعة فاجر أو غادر وإني والله لا أجعل فرائضهم وفرائض قوم جاءوا من مسيرة شهر، وإنما مهر أحدهم عند طبيبه. وإني زدتهم في غزاة واحد خمسمائة، حتى ألحقتهم بهم؟ قالوا: بلى.
قال: أذكركما الله ألستما تعلمان أنكما أتيتماني فقلتما إن كندة أكلة رأس وإن ربيعة هي الرأس وإن الأشعث بن قيس قد أكلهم فنزعه واستعملتكما؟ قالا: بلى.
قال: اللهم إنهم كفروا معروفي وبدلوا نعمتي، فلا ترضهم عن إمامهم ولا ترض إماما عنهم.
وقد روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل من رأى أن عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه. ثم قال: قم يا ابن عمر – وعلى ابن عمر سيفه متقلدا – فأخبر به الناس. فخرج ابن عمر و [ الحسن بن ] علي. ودخلوا فقتلوه.
وجاء زيد بن ثابت فقال له: إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله، مرتين. قال عثمان لا حاجة لى في ذلك كفوا.
وقال له أبو هريرة: اليوم طاب الضرب معك. قال: عزمت عليك لتخرجن.
وكان الحسن بن علي آخر من خرج من عنده، فإنه جاء الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان، فعزم عليهم في وضع سلاحهم وخروجهم ولزوم بيوتهم.
فقال له ابن الزبير ومروان: نحن نعزم على أنفسنا لا نبرح. ففتح عثمان الباب ودخلوا عليه في أصح الأقوال.
فقتله المرء الأسود.
وقيل: أخذ ابن أبي بكر بلحيته وذبحه كنانة، وقيل: رجل من أهل مصر يقال له حمار، فسقطت قطرة من دمه على المصحف على قوله { فسيكفيكهم } فإنها فيه، ما حكت إلى الآن.
وروي أن عائشة رضي الله عنها قالت: « غضبت لكم من السوط ولا أغضب لعثمان من السيف؟ استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقند المصفى، ومصتموه موص الإناء، وتركتموه كالثوب المنقى من الدنس ثم قتلتموه.
قال مسروق: فقلت لها: « هذا عملك، كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه ». فقالت عائشة: « والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سوادا في بياض ». قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها.
وقد روى أنه ما قتله أحد إلا أعلاج من أهل مصر.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: فهذا أشبه ما روي في الباب، وبه يتبين وبأصل المسالة سلوك سبيل الحق أن أحدا من الصحابة لم يسع عليه ولا قعد عنه. ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفا أو أكثر من ذلك، ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة.
وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثلها: هل يلقى بيده أو يستنصر؟ وأجاز بعضهم أن يستسلم ويلقى بيده اقتداء بفعل عثمان وبتوصية النبي ﷺ بذلك في الفتنة.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لم يك يرى في الأرض منكر واشتد الخطب على أهل الغضب وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبوا وثاروا إلي، فاستسلمت لأمر الله وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي فعاثوا علي، وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار لكنت قتيل الدار.
وكان الذي حملني على ذلك ثلاثة أمور: أحدها وصاية النبي ﷺ المتقدمة، والثاني الاقتداء بعثمان، الثالث سوء الأحدوثة التى فر منها رسول الله ﷺ المؤيد بالوحي. فإن من غاب عني، بل من حضر من الحسدة معي، خفت أن يقول: إن الناس مشوا إليه مستعينين به مستغيثين له فأراق دماءهم.
وأمر عثمان كله سنة ماضية وسيرة راضية. فإنه تحقق أنه مقتول بخبر الصادق له بذلك، وأنه بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه شهيد.
وروى أنه قال له في المنام: إن شئت نصرتك، أو تفطر عندنا الليلة.
وقد انتدبت المردة والجهلة إلى أن يقولوا: إن كل فاضل من الصحابة كان عليه مشاغبا مؤلبا، وبما جرى عليه راضيا. واخترعوا كتابا فيه فصاحة وأمثال كتب عثمان به مستصرخا إلى علي. وذلك كله مصنوع ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين.
قال القاضي أبو بكر: فالذي ينخل من ذلك أن عثمان مظلوم، محجوج بغير حجة، وأن الصحابة براء من دمه بأجمعهم، لأنهم أتوا إرادته وسلموا له رأيه في إسلام نفسه.
والطريق الثاني طريق علماء التاريخ وهو أن يعرضوا كل خبر على سجايا من يخبر عنه، ويقارنوه بسيرته، وهل هو مما ينتظر وقوعه ممن نسب إليه ويلائم المعروف من سابقته وأخلاقه أم لا، وتمحيص تاريخنا يحتاج إلى هاتين الطريقتين معا يقوم بهما علماء راسخون فيهما. ولقد ثبت – زائدا إلى ما تقدم عنهم – أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان: إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم. فائذن لنا. فقال: أذكر الله رجلا أراق لى دمه، أو قال دما.
وقال سليط بن أبى سليط: نهانا عثمان عن قتالهم، فلو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم عن أقطارها.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: كنت مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل من رأى أن لى عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم غناء من كف يده وسلاحه.
وثبت أن الحسن والحسين وابن الزبير وابن عمر ومروان كلهم شاك في السلاح حتى دخلوا الدار، فقال عثمان: أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم.
فلما قضى الله من أمره ما قضى ومضى في قدره ما مضى، علم أن الحق لا يترك الناس سدى وأن الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر فيه. ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدرا وعلما وتقى ودينا، فانعقدت له البيعة. ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي لجرى على من بها من الأوباش ما لا يرقع خرقه. ولكن عزم عليه المهاجرين والأنصار، ورأى ذلك فرضا عليه، فانقاد إليه.
وعقد له البيعة طلحة، فقال الناس: بايع عليا يد شلاء، والله لا يتم هذا الأمر.
فإن قيل: بايعا مكرهين. قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن بايعها. ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك، لأن واحدا أو أثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعا. ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام.
وأما من قال يد شلاء وأمر لا يتم، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع، ولم يكن كذلك.
فإن قيل: فقد قال طلحة: « بايعت واللج على قفيّ ». قلنا: اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في القفا لغة قفى كما يجعل في الهوى: هوى. وتلك لغة هذيل لا قريش فكانت كذبة لم تدبر.
وأما قولهم « يد شلاء » لو صح فلا متعلق لهم فيه، فإن يدا شلت في وقاية رسول الله ﷺ يتم لها كل أمر، ويتوقى بها من كل مكروه. وقد تم الأمر على وجهه، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه، وجهل المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه.
فإن قيل: بايعوه على أن يقتل عثمان. قلنا: هذا لا يصح في شرط البيعة، وإنما يبايعونه على الحكم بالحق، وهو أن يحضر الطالب للدم، ويحضر المطلوب، وتقع الدعوى، ويكون الجواب، وتقوم البينة، ويقع الحكم. فأما على الهجم عليه بما كان من قول مطلق، أو فعل غير محقق، أو سماع كلام، فليس ذلك في دين الإسلام. قالت العثمانية: تخلف عنه من الصحابة، منهم سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وأسامة بن زيد وسواهم من نظرائهم.
قلنا: أما بيعته فلم يتخلف عنها. وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذكرتم، لأنها كانت مسألة اجتهادية، فاجتهد كل واحد وأعمل نظرة وأصاب قدره.
روى قوم أن البيعة لما تمت لعلى استأذن طلحة والزبير عليا في الخروج إلى مكة. فقال لهما علي: لعلكما تريدان البصرة والشام فأقسما ألا يفعلا. وكانت عائشة بمكة.
وهرب عبد الله بن عامر بن كريز عامل عثمان على البصرة إلى مكة، ويعلى بن أمية عامل عثمان على اليمن.
فاجتمعوا بمكة كلهم، ومعهم مروان بن الحكم. واجتمعت بنو أمية. وحرضوا على دم عثمان. وأعطى يعلى لطلحة والزبير وعائشة أربعمائة الف درهم. وأعطى لعائشة "عسكرا" جملا اشتراه باليمن بمائتي دينار. فأرادوا الشام، فصدهم ابن عامر وقال: لا ميعاد لكم بمعاوية، ولي بالبصرة صنائع، ولكن إليها.
فجاءوا إلى ماء الحوأب، ونبحت كلابه، فسألت عائشة فقيل لها: هذا ماء الحوأب. فردت خطامها عنه، وذلك لما سمعت النبي ﷺ يقول « أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، التي تنبحها كلاب الحوأب؟ » فشهد طلحة والزبير أنه ليس هذا ماء الحوأب، وخمسون رجلا إليهم ، وكانت أول شهادة زور دارت في الإسلام.
وخرج علي إلى الكوفة، وتعسكر الفريقان والتقوا، وقال عمار – وقد دنا من هودج عائشة -: ما تطلبون؟ قالوا: نطلب دم عثمان.
قال: قتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق.
والتقى علي والزبير، فقال له علي: أتذكر قول النبي ﷺ: إنك تقاتلني؟ فتركه ورجع. وراجعه ولده فلم يقبل. وأتبعه الأحنف من قتله.
ونادى علي طلحة من بعد: ما تطلب؟ قال: دم عثمان. قال: قاتل الله أولانا بدم عثمان. ألم تسمع النبي ﷺ يقول، « اللهم وال من ولاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله » وانت أول من بايعني ونكث.
عاصمة
أما خروجهم إلى البصرة لا إشكال فيه.
ولكن لأي شئ خرجوا؟ لم يصح فيه نقل، ولا يوثق فيه بأحد لأن الثقة لم ينقله، وكلام المتعصب لا يسمع. وقد دخل على المتعصب من يريد الطعن في الإسلام واستنقاص الصحابة.
فيحتمل أنهم خرجوا خلعا لعلي لأمر ظهر لهم، وهو أنهم بايعوا لتسكين الثائرة، وقاموا يطلبون الحق.
ويحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان.
ويمكن أنهم خرجوا في جمع طوائف المسلمين، وضم نشرهم، وردهم إلى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا. وهذا هو الصحيح، لا شيء سواه، وبذلك وردت صحاح الأخبار.
فأما الأقسام الأولى فكلها باطلة وضعيفة:
أما بيعتهم كرها فباطل قد بيناه.
واما خلعهم فباطل، لأن الخلع لا يكون إلا بنظر من الجميع، فيمكن أن يولى واحد أو اثنان، ولا يكون الخلع إلا بعد الإثبات والبيان.
وأما خروجهم في أمر قتلة عثمان، لأن الأصل قبله تأليف الكلمة، ويمكن أن يجتمع الأمران [19].
ويروي أن في تغيبهم قطع الشغب بين الناس. فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم رجاء أن يرجع الناس إلي أمهم فيرعوا حرمة نبيهم. واحتجوا عليها بقوله تعالى: { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس }، [20]. وقد خرج النبي ﷺ في الصلح وأرسل فيه. فرجت المثوبة، واغتنمت القصة، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها.وأحس بهم أهل البصرة، فحرض من كان بها من المتألبين على عثمان الناس، وقالوا اخرجوا إليهم حتى تروا ما جاءوا إليه. فبعث عثمان بن حنيف حكيم بن جبلة فلقي طلحة والزبير بالزابوقة، فقتل حكيم. ولو خرج مسلما مستسلما لا مدافعا لما أصابه شيء. وأي خير كان له في المدافعة وعن أي شيء كان يدافع؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة، وإنما جاءوا ساعين في الصلح، راغبين في تأليف الكلمة، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقصدهم، كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد.
فلما وصلوا إلى البصرة تلقاهم الناس بأعلى المربد مجتمعين، حتى لو رمى حجر ما وقع إلا علي رأس إنسان. فتكلم طلحة ( وتكلم الزبير ) وتكلمت عائشة رضي الله عنها. وكثر اللغط وطلحة يقول « أنصتوا » فجعلوا يركبونه ولا ينصتون، فقال « أُف، أُف. فراش نار، وذباب طمع ». وانقلبوا على غير بيان. وانحدروا إلى بني نهد، فرماهم الناس بالحجارة حتى نزلوا الجبل.
والتقى طلحة والزبير وعثمان بن حنيف – عامل علي على البصرة – وكتبوا بينهم أن يكفوا عن القتال، ولعثمان دار الإمارة والمسجد وبيت المال، وأن ينزل طلحة والزبير من البصرة حيث شاءا، ولا يعرض بعضهم لبعض حتى يقدم علي. وروي أن حكيم بن جبلة عارضهم حينئذ. فقتل بعد الصلح. وقدم علي البصرة، وتدانوا ليتراءوا، فلم يتركهم أصحاب الأهواء وبادروا بإراقة الدماء. واشتجر الحرب.
وقد روي أن مروان لما وقعت عينه في الاصطفاف على طلحة قال: لا نطلب أثرا بعد عين، ورماه بسهم فقتله. ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب، ولم ينقله ثبت. وقد روي أنه أصابه سهم بأمر مروان، لا أنه رماه.
وقد خرج كعب بن سور بمصحف منشور بيده يناشد الناس أن لا يريقوا دماءهم، فأصابه سهم غربٍ فقتله. ولعل طلحة مثله. ومعلوم أنه عند الفتنة وفي ملحمة القتال يتمكن أولو الإحن والحقود من حل العرى ونقض العهود. وكانت آجالا حضرت، ومواعيد انتجزت، فإن قيل: لم خرجت عائشة رضي الله عنها وقد قال ﷺ لهن في حجة الوداع « هذه ثم ظهور الحصر ». قلنا: حدث حديثين امرأة، فإن أبت فأربعة. يا عقول النسوان ألم أعهد إليكم ألا ترووا أحاديث البهتان، وقدمنا لكم على صحة خروج عائشة البرهان، فلم تقولون ما لا تعلمون؟ وتكررون ما وقع الانفصال عنه كأنكم لا تفهمون؟ { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون }.
وأما الذي ذكرتم من الشهادة على ماء الحوأب، فقد بؤتم في ذكرها بأعظم حوب. ما كان قط شيء كما ذكرتم، ولا قال النبي ﷺ ذلك الحديث، ولا جرى ذلك الكلام، ولا شهد أحد بشهادتهم، وقد كتب شهاداتكم بهذا الباطل وسوف تسألون.
قاصمة
ودارت الحرب بين أهل الشام وأهل العراق: هؤلاء يدعون إلى علي بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام، وهؤلاء يدعون إلى التمكين عن قتلة عثمان ويقولون: لا نبايع من يؤوى القتلة. وعلي يقول لا أمكن طالبا من مطلوب ينفذ فيه مراده بغير حكم ولا حاكم. ومعاوية يقول: لا نبايع متهما أو قاتلا له، وهو أحد من يطلب فكيف نحكمه أو نبايعه، وهو خليفة عدا[ء] وتسور.
وذكروا في تفاصيل ذلك كلمات آلت إلى استفعال رسائل واستخراج أقوال وإنشاء أشعار وضرب أمثال تخرج عن سيرة السلف، يقرها الخلْف وينبذها الخلَف.
عاصمة
أما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعا، وأما كونه بهذا السبب فمعلوم كذلك قطعا، وأما الصواب فيه فمع علي، لأن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه، بل يطلب [ الحق ] عنده، فإن ظهر له قضاء وإلا سكت وصبر، فكم من حق يحكم الله فيه، وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه، فيقوم له عذر في الدنيا. ولئن أتهم علي بقتل فليس في المدينة أحد من أصحاب النبي ﷺ إلا وهو متهم به، أو قل معلوم قطعا أنه قتله لأن ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين ألفا.
وهبك أن عليا وطلحة والزبير تضافروا على قتل عثمان، فباقي الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اعتد فيهم وضوى إليهم ماذا صنعوا بالقعود عن نصرته؟
ولا يخلو أن يكون لأنهم رأوا أولئك طلبوا حقا وفعلوا حقا، فهذه شهادة قائمة على عثمان فلا كلام لأهل الشام. وإن كانوا قعدوا عنه استهزاء بالدين، وأنهم لم يكن لهم رأى في الحال، ولا مبالاة عندهم بالإسلام ولا فيما يجري فيه من اختلال، فهي ردة ليست معصية. لأن التهاون بحدود الدين وإسلام حرمات الشريعة للتضييع كفر، وإن كانوا قعدوا لأنهم لم يروا أو يتعدوا حد عثمان وإشارته فأي ذنب لهم فيه؟ وأي حجة لمروان وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين وابن عمر وأعيان العشرة معه في داره يدخلون إليه ويخرجون عنه في الشكة والسلاح – والمطالبون ينظرون؟ ولو كان لهم بهم قوة أو أووا إلى ركن شديد لما مكنوا أحدا أن يراه منهم ولا يدخله، وإنما كانوا نظارة، فلو قام في وجوههم الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن الزبير ما جسروا، ولو قتلوهم ما بقي على الأرض منهم حي. ولكن عثمان سلم نفسه، فترك ورأيه. وهي مسألة اجتهاد كما قدمنا.
وأي كلام كان يكون لعلي – لما تمت له البيعة – لو حضر عنده ولي عثمان وقال له: إن الخليفة قد تمالأ عليه ألف نسمة حتى قتلوه، وهم معلومون. ماذا كان يقول إلا: أثبت وخذ، وفي يوم كان يثبت إلا أن يثبتوا هم أن عثمان كان مستحقا للقتل. وبالله لتعلمن يا معشر المسلمين أنه ما كان يثبت على عثمان ظلم أبدا، وكان يكون الوقت أمكن للطالب، وأرفق في الحال، أيسر وصولا إلى المطلوب.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أن معاوية لما صار إليه الأمر لم يمكنه أن يقتل من قتلة عثمان أحدا إلا بحكم، إلا من قتل في حرب بتأويل، أو دس عليه فيما يقال. حتى انتهى الأمر إلى زمن الحجاج، وهم يقتلون بالتهمة لا بالحقيقة. فتبين لكم أنهم ما كانوا في ملكهم يفعلون ما أضحوا له يطلبون.
والذي تثلج به صدوركم أن النبي ﷺ ذكر في الفتن و أشار وبين وأنذر بالخوارج وقال « تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ». فبين أن كل طائفة [ منهما ] تتعلق بالحق، ولكن طائفة علي أدنى إليه. وقال تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين }، [21] فلم يخرجهم عن الإيمان بالبغي بالتأويل ولا سلبهم اسم الإخوة بقوله بعده { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم }، . [22]
وقال ﷺ في عمار: « تقتله الفئة الباغية ». وقال في الحسن « ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين »، فحسن له خلعه نفسه وإصلاحه.
وكذلك يروى أنه أذن – في الرؤيا – لعثمان في أن يستسلم ويفطر عنده الليلة.
فهذه كلها أمور جرت على رسم النزاع، ولم تخرج عن طريق من طرق الفقه، ولا عدت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة والمخطئ أجرا واحدا، وما وقع من روايات في كتب التاريخ – عدا ما ذكرنا – فلا تلتفتوا إلى حرف منها، فإنها كلها باطلة.
قاصمة التحكيم
وقد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله. وإذا لحظتموه بعين المروءة – دون الديانة – رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين.
والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط الدارقطني: أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين [ أو تسعين ] ألفا ونزلوا على الفرات بصفين، اقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء على الماء فغلب أهل العراق عليه. ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة [ سبع وثلاثين ] ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت. ورفعت المصاحف من أهل الشام ودعوا إلى الصلح، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق. فكان من جهة علي أبو موسى، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص. وكان أبو موسى رجلا ثقفا فقيها عالما حسبما بيناه في كتاب سراج المريدين، أرسله النبي ﷺ إلى اليمن مع معاذ، وقدمه عمر وأثنى عليه بالفهم. وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعا في القول، وأن ابن العاص كان ذا دهاء وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيدا لما أرادت من الفساد. وتبع في ذلك بعض الجهال بعضا وصنفوا فيه حكايات، وغيره من الصحابة كان أحدق منه وأدهى، وإنما بنوا على أن عمرا لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والفكر.
وقالوا إنهما لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل وتفاوضا اتفقا على أن يخلعا الرجلين. فقال عمرو لأبي موسى: أسبق بالقول فتقدم: إنى نظرت فخلعت عليا عن الأمر، وينظر المسلمون لأنفسهم، كما خلعت سيفي هذا من عنقي – أو من عاتقي – وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض. وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي، وتقلده. فأنكر أبو موسى. فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف.
عاصمة
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط. وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع.
وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر – في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر ونحوه – عزل عمرو معاوية.
ذكر الدارقطني بسنده إلى حصين بن المنذر: لما عزل عمرو معاوية جاء [ أي حصين بن المنذر ] فضرب فسطاطه قريبا من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا [ أي عن عمرو ] كذا وكذا، فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه، فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راضٍ. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما قال: فكانت هي التي قتل معاوية منها نفسه. فأتيته فأخبرته [ أي فأتى حصين معاوية فأخبره ] أن الذي بلغه عنه كما بلغه. فأرسل إلى أبي الأعور الذكواني فبعثه في خيلة، فخرج يركض فرسه ويقول: أين عدو الله أين هذا الفاسق؟
قال أبو يوسف: أظنه قال إنما يريد حوباء نفسه فخرج [ عمرو ] إلى فرس فسطاط فجال في ظهره عريانا، فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية وهو يقول إن الضجور قد تحتلب العلبة يا معاوية، إن الضجور قد تحتلب العلبة. فقال معاوية: أجل، وتربذ الحالب فتدق أنفه، وتكفأ إناءه.
قال الدارقطني – وذكر سندا عدلا وساق الحديث: ربعي عن أبي موسى أن عمرو بن العاص قال: « والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شئ لقد غبنا ونقص رأيهما. وأيم الله ما كانا مغبونين ولا ناقصي الرأي. ولئن كانا امرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا. وأيم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا ».
فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه. فأعرضوا عن الغاوين وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين، إلى سنن المهتدين. وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين. وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله ﷺ، فقد هلك من كل أصحاب النبي ﷺ خصمه. ودعوا ما مضى فقد قضى الله ما قضى. وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقادا وعملا. ولا تسترسلوا بألسنتكم فيما لا يعينكم مع كل ناعق اتخذ الدين هملا، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. ورحم الله الربيع بن خثيم فإنه لما قيل له: قتل الحسين ! قال: أقتلوه؟ قالوا: نعم. فقال { اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون } [23]. ولم يزد على هذا أبدا. فهذا العقل والدين، والكف عن أحوال المسلمين، والتسليم لرب العالمين.
قاصمة
فإن قيل: إنما يكون ذلك في المعاني التى تشكل، وأما هذه الأمور كلها فلا إشكال فيها، لأن النبي ﷺ نص على استخلاف علي بعده فقال « أنت منى بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي »، [ وقال ]: « اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله »، فلم يبق بعد هذا خلاف لمعاند.
فتعدى عليه ابو بكر واقتعد في غير موضعه.
ثم خلفه في التعدي عمر.
ثم رجى أن يوفق عمر للرجوع إلى الحق، فأبهم الحال، وجعلها شورى قصرا للخلاف، للذي سمع النبي ﷺ.
ثم تحيل ابن عوف حتى ردها عنه إلى عثمان.
ثم قتل عثمان لتسوره على الخلافة وعلى أحكام الشريعة، وصار الأمر إلى علي بالحق الإلهي النبوي، فنازعه من عاقده، وخالف عليه من بايعه، ونقض عهده من شده.
وانتدب أهل الشام إلى الفسوق في الدين، بل الكفر.
وهذه حقيقة مذهبهم، وأن الكل عندهم كفرة، لأن من مذهبهم التكفير بالذنوب. وكذلك تقول هذه الطائفة التى تسمى بالإمامية: إن كل عاص بكبيرة كافر على رسم القدرية، ولا أعصى من الخلفاء المذكورين ومن ساعدهم على أمرهم، و أصحاب محمد ﷺ أحرص الناس على دنيا، وأقلهم حمية على دين، وأهدمهم لقاعدة وشريعة.
عاصمة
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: يكفيك من شر سماعه، فكيف التململ به. خمسمائة عام عدا إلى يوم مقالي هذا – لا ننقص منها يوما ولا نزيد يوما – وهو مهل شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة وماذا يرجى بعد التمام إلا النقص؟
ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد ﷺ حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل. فما يرجى من هؤلاء، وما يستبقى منهم؟ وقد قال الله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم. وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا }، [24]، وهذا قول صدق ووعد حق. وقد انقرض عصرهم ولا خلفة فيهم ولا تمكين ولا أمن ولا سكون إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة.
وقد اجمعت الأمة على أن النبي ﷺ ما نص على أحد يكون من بعده. وقد قال العباس لعلي – فيما روى عنه عبد الله ابنه – قال عبد الله بن عباس: خرج علي بن ابي طالب رضي الله عنه من عند رسول الله ﷺ في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله ﷺ؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا. فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا. وإني لأرى رسول الله ﷺ يتوفى من وجعه هذا. إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. اذهب بنا إلى رسول الله ﷺ فلنسأله فيمن يكون هذا الأمر بعده، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا. فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله ﷺ فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله ﷺ.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: رأى العباس عندي أصح وأقرب إلى الآخرة، والتصريح بالتحقيق. وهذا يبطل قول مدعي الإشارة باستخلاف علي، فكيف أن يدعي فيه نص؟
فأما أبو بكر، فقد جاءت امرأة إلى النبي ﷺ فأمرها أن ترجع إليه. قالت له: فإن لم أجدك – كأنها تعني الموت – قال: تجدين أبا بكر.
وقال النبي ﷺ لعمر وقد وقع بينه [ أي بين عمر ] وبين أبي بكر كلام، فتعمر وجه النبي ﷺ، حتى أشفق من ذلك أبو بكر، وقال النبي ﷺ « هل أنتم تاركو لي صاحبي ( مرتين ). إني بعثت إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر صدقت. ألا إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ».
وقال النبي ﷺ: « لو كنت متخذا في الإسلام خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن أخي وصاحبي. وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا. لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر ».
وقد قال النبي ﷺ: « بينما أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن ».
وقد ثبت أن النبي ﷺ صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف بهم: فقال « اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ».
وقال ﷺ: « لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكون أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر ».
وقال النبي ﷺ لعائشة رضي الله عنها في مرضه: « ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ».
وقال ابن عباس: إن رجلا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، وأني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون بأيديهم، فالمستكثر والمستقل. وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك أخذت به فعلوت، [ ثم اخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ]، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع، ثم وصل له فعلا ( وذكر الحديث ). ثم عبرها أبو بكر فقال: وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، فأخذته فيعليك الله. ثم يأخذ به رجل آخر بعدك فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به ثم يوصل فيعلو به ».
وصح أن النبي ﷺ قال ذات يوم: « من رأى منكم رؤيا » فقال رجل: أنا رأيت، كأن ميزانا نزل من السماء، فوزنت أنت وابو بكر فرجحت. ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر. ووزن عمر وعثمان فرجح عمر. ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهية في وجه رسول الله ﷺ.
وهذه الأحاديث جبال في البيان، وجبال في السبب إلى الحق لمن وفقه الله. ولو لم يكن معكم – أيها السنية – إلا قوله تعالى { إلا تنصروه فقد نصره الله، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني أثنين إذ هما في الغار } [25] فجعلها (في نصيف، وجعل أبا بكر في نصيف آخر وقام معه جميع الصحابة.
وإذا تبصرتم هذه الحقائق فليس يخفى منها حال الخلفاء في خلالهم وولايتهم وترتيبهم خصوصا وعموما. وقد قال الله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا } [26]. وإذا لم ينفذ هذا الوعد في الخلفاء فلمن ينفذ؟ وإذا لم يكن فيهم ففيمن يكون؟ والدليل عليه انعقاد الإجماع أنه لم تثقدمهم في الفضيلة أحد إلى يومنا هذا. ومن بعد مختلف فيه، وأؤلئك مقطوع بهم، متيقن إمامتهم، ثابت نفوذ وعد الله لهم، فإنهم ذبوا عن حوزة المسلمين وقاموا بسياسة الدين. قال علماؤنا: ومن بعدهم تبع لهم من الأئمة الذين هم أركان الملة، ودعائم الشريعة، الناصحون لعباد الله، الهادون من استرشد إلى الله. فأما من كان من الولاة الظلمة فضررة مقصور على الدنيا وأحكامها.
وأما حفاظ الدين فهم الأئمة العلماء الناصحون لدين الله، وهم أربعة اصناف:
الصنف الأول: حفظوا أخبار رسول الله ﷺ، وهم بمنزلة الخزان لأقوات المعاش.
الصنف الثاني: علماء الأصول: ذبوا عن دين الله أهل العناد وأصحاب البدع، فهم شجعان الإسلام وأبطاله المداعسون عنه في مآزق الضلال.
الصنف الثالث: قوم ضبطوا أصول العبادات وقانون المعاملات وميزوا المحللات من المحرمات وأحكموا الخراج والديات وبينوا معاني الإيمان والنذور وفصلوا الأحكام في الدعاوي، فهم في الدين بمنزلة الوكلاء المتصرفين في الأموال.
الصنف الرابع: تجردوا للخدمة ودأبوا على العبادة واعتزلوا الخلق. وهم في الآخرة كخواص الملك في الدنيا.
وقد أوضحنا في كتاب سراج المريدين في القسم الرابع من علوم القرآن أي المنازل أفضل من هؤلاء الأصناف وترتيب درجاتهم.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: وهذه كلها إشارات أو تصريحات أو دلالات أو تنبيهات. ومجموع ذلك يدل على صحة ما جرى وتحقيق ما كان من العقلاء.
ونقول بعد هذا البيان على مقام آخر: لو كان هنالك نص على أبي بكر أو على علي، لم يكن بد من احتجاج علي به، أو يحتج له به غيره من المهاجرين والأنصار. فأما حديث غدير خم فلا حجة فيه، لأنه إنما استخلفه في حياته على المدينة كما استخلف موسى هارون في حياته عند سفره للمناجاة على بني إسرائيل. وقد اتفق الكل من إخوانهم اليهود على أن موسى مات بعد هارون فأين الخلافة؟
وأما قوله « اللهم وال من والاه » فكلام صحيح ودعوة مجابة، وما يعلم أحد عاداه إلا الرافضة، فإنهم أنزلوه في غير منزلته، ونسبوا إليه ما لا يليق بدرجته. والزيادة في الحد نقصان من المحدود. ولو تعدى عليها أبو بكر ما كان المتعدى وحده، بل جميع الصحابة – كما قلنا – لأنهم ساعدوه على الباطل.
ولا تستغربوا هذا من قولهم، فإنهم يقولون: إن النبي ﷺ كان مداريا لهم وممتحنا بهم على نفاق وتقية. وأين أنت من قول النبي ﷺ حين سمع قول عائشة رضي الله عنها مروا عمر فليصل بالناس: « إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس ». وما قدمنا من تلك الأحاديث.
لقد اقتحموا عظيما ولقد افتروا كبيرا. وما جعلها عمر شورى إلا اقتداء بالنبي ﷺ وبأبي بكر، إذ قال: « إن أستخلف فقد أستخلف من هو خير مني، وإن لم أستخلف فإن رسول الله ﷺ لم يستخلف » فما رد هذه الكلمات أحد. وقال: « أجعلها شورى في النفر الذين توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض ». وقد رضي الله عن أكثرهم منهم، ولكنهم كانوا خيار الرضا، وشهد لهم بالأهلية للخلافة.
واما قولهم تحيل ابن عوف حتى ردها لعثمان، فلئن كانت حيلة ولم يكن سواها فلأن الحول ليس إليه. وإذا كان عمل العباد حيلة أو كان القضاء بالحول، فالحول والقوة لله. وقد علم كل أحد أن لا يليها إلا واحد، فاستبد عبد الرحمن بن عوف بالأمر – بعد أن أخرج نفسه على أن يجتهد للمسلمين في الأسد والأشد.، فكان كما فعل، وولاها من استحقها، ولم يكن غيره أولى منه بها، حسبما بينا في ( مراتب الخلافة ) من ( أنوار الفجر ) وفي غيره من [ كتب ] الحديث.
وقتل عثمان فلم يبق على الأرض أحق بها من علي. فجاءته على قدر في وقتها ومحلها. وبين الله على يديه من الأحكام والعلوم ما شاء الله أن يبين. وقد قال عمر « لولا علي لهلك عمر ». وظهر من فقهه وعلمه في قتال أهل القبلة – من استدعائهم ومناظرتهم وترك مبادرتهم، والتقدم إليهم قبل نصب الحرب معهم وندائه: لا تبدأوا بالحرب، ولا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولا تهاج امرأة، ولم يغنم لهم مالا. وأمره بقبول شهادتهم والصلاة خلفهم، حتى قال أهل العلم: لولا ما جرى ما عرفنا حكم قتال أهل البغي.
وأما خروج طلحة والزبير فقد تقدم بيانه.
وأما تكفيرهم للخلق، فهم الكفار، وقد بينا أحوال أهل الذنوب التي ليس منهم عليها شر في غير ما كتاب، وشرحناها في كل باب.
فإن قيل: فقد قال العباس في علي ما رواه الأئمة أن العباس وعليا اختصما عند عمر في شان أوقاف رسول الله ﷺ، فقال العباس لعمر: يا امير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا الظالم الكاذب الآثم الجائر. فقال الرهط لعمر: يا أمير المؤمنين، اقض بينهما وأرح احدهما من الآخر. فقال عمر: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله ﷺ قال: « لا نورث، ما تركناه صدقة » يريد بذلك نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك. فأقبل على العباس وعلي فقال: أنشدكما الله، هل تعلمان أن رسول الله ﷺ قال ذلك؟ قالا: نعم. قال عمر: إن الله خص رسول الله ﷺ في هذا الفيء بشئ لم يعطه أحدا غيره، فعمل فيها رسول الله ﷺ حياته، ثم توفي، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله ﷺ، فقبضها سنتين في إمارته فعمل فيها بما عمل رسول الله ﷺ. وأنتما تزعمان أن أبا بكر كاذب غادر خائن، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق …. وذكر الحديث.
قلنا: أما قول العباس لعلي فقول الأب للابن، وذلك على الرأي محمول، وفي سبيل المغفرة مبذول، وبين الكبار والصغار – فكيف الآباء والأبناء – مغفور موصول. وأما قول عمر إنهما اعتقد أن أبا بكر ظالم خائن غادر وكذلك اعتقدا فيه فإنما ذلك خبر عن الاختلاف في نازلة وقعت من الأحكام، رأى فيها هذا رأيا ورأى فيها أولئك رأيا، فحكم أبو بكر وعمر بما رأيا، ولم ير العباس وعلي ذلك. ولكن لما حكما سلما لحكمهما كما يسلم لحكم القاضي في المختلف فيه. وأما المحكوم عليه فرأى أنه قد وهم ولكن سكت وسلم.
فإن قيل: إنما يكون ذلك في أول الحال والأمر لم يظهر إذا كان الحكم باجتهاد، وإنما كان هذا الحكم على منع فاطمة والعباس الميراث بقول النبي ﷺ « لا نورث ما تركناه صدقة » وعلمه أزواج النبي ﷺ وأصحابه العشرة وشهدوا به، فبطل ما قلتموه.
قلنا: يحتمل أن يكون ذلك في أول الحال – والأمر لم يظهر بعد – فرأيا أن خبر الواحد في معارضة القرآن والأصول والحكم المشهور في الزمن لا يعمل به حتى يتقرر الأمر، فلما تقرر سلما وانقادا، بدليل ما قدمنا من الحديث الصحيح إلى آخره، فلينظر فيه. وهذا ايضا ليس بنص في المسألة لأن قوله « لا نورث، ما تركناه صدقة » يحتمل أن يكون: لا يصح ميراثنا، ولا أنا أهل له، لأنه ليس لي ملك ولا تلبست بشيء من الدنيا ينتقل إلى غيري عني، ويحتمل لا نورث حكم وقوله « ما تركناه صدقة » حكم آخر معين أخبر به أنه قد أنفذ الصدقة فيما كان بيده من سهمه المتصير إليه بتسويغ الله له وكان من ذلك مخصوصا لما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكان له سهمه مع المسلمين فيما غنموا بما أخذوه عنوة. ويحتمل أن يكون « صدقة » منصوبا على أن يكون حالا من المتروك. إلى هذا أشار أصحاب أبي حنيفة، وهو ضعيف، وقد بيناه في موضعه. بيد أنه يأتيك من هذا أن المسألة مجرى الخلاف ومحل الاجتهاد، أنها ليست بنص من النبي ﷺ فتحتمل التصويب والتخطئة من المجتهدين والله اعلم.
قاصمة
ثم قتل علي. قالت الرافضة: فعهد إلى الحسن، فسلمها الحسن إلى معاوية، فقيل له« مسود وجوه المؤمنين » وفسقته جماعة من الرافضة، وكفرته طائفة لأجل ذلك.
عاصمة
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: أما قول الرافضة أنه عهد إلى الحسن فباطل. ما عهد إلى أحد. ولكن البيعة للحسن منعقدة، وهو أحق من معاوية ومن كثير من غيره، وكان خروجه لمثل ما خرج إليه أبوه من دعاء الفئة الباغية إلى الانقياد للحق والدخول في الطاعة، فآلت الوساطة إلى أن تخلى عن الآمر صيانة لحقن دماء الأمة وتصديقا لقول نبي الرحمة حيث قال على المنبر: « ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»
فنفذ الميعاد، وصحت البيعة لمعاوية، وذلك لتحقيق رجاء النبي ﷺ، فمعاوية خليفة، وليس بملك.
فإن قيل: فقد روي عن سفينة أن النبي ﷺ قال « الخلافة ثلاثون سنة، ثم تعود ملكا » فإذا عددنا من ولاية أبي بكر إلى تسليم الحسن كانت ثلاثين سنة لا تزيد ولا تنقص يوما، قلنا: خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ** في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
هذا الحديث في ذكر الحسن بالبشارة له والثناء عليه، لجريان الصلح بين يديه وتسليم الأمر لمعاوية، عقد منه له. وهذا حديث لا يصح. ولو صح فهو معارض لهذا الصلح المتفق عليه، فوجب الرجوع إليه.
فإن قيل: ألم يكن في الصحابة أقعد بالأمر من معاوية؟
قلنا: كثير. ولكن معاوية اجتمعت فيه خصال: وهي أن عمر جمع له الشامات كلها وأفرده بها، لما رأى من حسن سيرته وقيامه بحماية البيضة وسد الثغور وإصلاح الجند والظهور على العدو وسياسة الخلق. وقد شهد له في صحيح الحديث بالفقه، وشهد بخلافته في حديث أم حرام أن ناسا من أمته يركبون ثبج البحر الأخضر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، وكان ذلك في ولايته.
ويحتمل أن تكون مراتب في الولاية: خلافة، ثم ملك. فتكون ولاية الخلافة للأربعة، وتكون ولاية الملك لابتداء معاوية. وقد قال الله في داود وهو خير من كل معاوية: { وآتاه الله الملك والحكمة } [27] فجعل النبوة ملكا. فلا تلتفتوا إلى أحاديث ضعف سندها ومعناها.
ولو اقتضت الحال النظر في الأمور لكان – والله أعلم – رأي آخر للجمهور، ولكن انعقدت البيعة لمعاوية بالصفة التى شاءها الله، على الوجه الذي وعد به رسول الله ﷺ مادحا له راضيا عنه راجيا هدنة الحال فيه، لقول النبي ﷺ « ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ».
وقد تكلم العلماء في إمامة المفضول مع وجود من هو افضل منه، فليست المسألة في الحد الذي تجعله فيه العامة، وقد بيناها في موضعها.
فإن قيل: قتل حجر بن عدي – وهو من الصحابة مشهور بالخير – صبرا أسيرا بقول زياد، وبعثت إليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله. قلنا: قد علمنا قتل حجر كلنا واختلفنا: فقائل يقول قتله ظلما وقائل يقول قتله حقا.
فإن قيل: الأصل قتلة ظلما إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله، قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق، فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل ولو كان ظلما محضا لما بقى بيت إلا لعن فيه معاوية. وهذه مدينة السلام دار خلافة بني العباس – وبينهم وبين بنى أمية مالا يخفى على الناس – مكتوب على أبواب مساجدها: « خير الناس بعد رسول الله ﷺ أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم معاوية خال المؤمنين رضي الله عنهم ».
ولكن حجرا – فيما يقال – رأى من زياد أمور منكرة، فحصبه وخلعه، وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فسادا.
وقد كلمته عائشة في أمره حين حج، فقال لها: دعيني وحجرا حتى نلتقي عند الله. وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين، وما أنتم ودخولكم حيث لا تشعرون، فما لكم لا تسمعون؟
فإن قيل: قد دس على الحسن من سمه.
قلنا: هذا محال من وجهين: أحدهما أنه ما كان ليتقي من الحسن باسا وقد سلم الأمر. الثاني أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله فكيف تحملونه بغير بينة على أحد من خلقه في زمان متباعد لم نثق فيه بنقل ناقل، بين أيدى قوم ذوي أهواء، وفي حال فتنة وعصبية، ينسب كل واحد إلى صاحبه ما لا ينبغي، فلا يقبل منها إلا الصافي، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم.
فإن قيل: فقد عهد إلى يزيد وليس بأهل. وجرى بينه وبين عبد الله بن عمر وابن الزبير والحسن ما نصه عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه وعن غيره: لما أجمع معاوية أن يبايع لابنه يزيد حج، فقدم مكة في نحو ألف رجل. فلما دنا من المدينة خرج ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر، فلما قدم معاوية المدينة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر ابنه يزيد فقال: من أحق بهذا الأمر منه. ثم ارتحل، فقدم مكة فقضى طوافه، ودخل منزله، فبعث إلى ابن عمر، فتشهد وقال: « أما بعد با ابن عمر، فقد كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء ليس عليك أمير. وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وإن تسعى في فساد ذات بينهم ». فلما سكت تكلم ابن عمر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « أما بعد فإنه قد كانت قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك بخير منهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في أابنك، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار. وإنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، ولم أكن لأفعل، وإنما أنا رجل من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر فإنما أنا واحد منهم ». فخرج ابن عمر.
وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فتشهد ثم أخذ في الكلام فقطع عليه كلامه، فقال: « إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله. وإنا والله لا نفعل. والله لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين أو لتفرنها عليك جذعة » ثم وثب فقام. فقال معاوية « اللهم اكفينيه بما شئت ». ثم قال: « على رسلك أيها الرجل، لا تشرفن لأهل الشام، فإني أخاف أن يسبقوني بنفسك، حتى أخبر العشية أنك قد بايعت، ثم كن بعد ذلك على ما بدا لك من أمرك ».
ثم أرسل إلى ابن الزبير فقال: « يا ابن الزبير، إنما أنت ثعلب رواغ كلما خرج من حجر دخل في آخر، وإنك عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخرهما ». فقال ابن الزبير: « إن كنت قد مللت الإمارة فاعتزلها، وهلم ابنك فلنبايعه. أرأيت إذا بايعت ابنك معك لأيكما نسمع، لأيكما نطيع؟ لا تجتمع البيعة لكما ابدا ». ثم قام.
فخرج معاوية فصعد المنبر فقال: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار. وزعموا أبن ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر لم يبايعوه ليزيد قد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له.
فقال أهل الشام: لا والله: لا نرضى حتى يبايعوا على رءوس الأشهاد، وإلا ضربنا أعناقهم.
فقال: « مه، سبحان الله، وما أسرع الناس إلى قريش بالشر لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم » ثم نزل.
فقال الناس: بايعوا. ويقولون هم: لم نبايع. ويقول الناس: قد بايعتم.
وروى وهب من طريق آخر قال: خطب معاوية فذكر ابن عمر فقال: « والله ليبايعن أو لأقتلنه » فخرج عبد الله بن عبد الله بن عمر إلى أبيه وسار إلى مكة ثلاثا وأخبره، فبكى ابن عمر. فبلغ الخبر إلى عبد الله بن صفوان، فدخل على ابن عمر فقال: أخطب هذا بكذا؟ قال: نعم. قال فما تريد، أتريد قتاله؟ قال: يا ابن صفوان، الصبر خير من ذلك. فقال ابن صفوان: والله لو أراد ذلك لأقاتلنه. فقدم معاوية مكة فنزل ذا طوى، وخرج إليه عبد الله بن صفوان فقال: أنت تزعم أنك تقتل ابن عمر إن لم يبايع لابنك؟ قال: أنا أقتل ابن عمر؟ إني والله لا أقتله.
وروى وهب من طريق ثالث قال: إن معاوية لما راح عن بطن مر قاصدا إلى مكة قال لصاحب حرسه: لا تدع أحدا يسير معي إلا من حملته. فخرج يسير وحده حتى إذا كان وسط الأراك لقيه الحسين بن علي، فوقف وقال: مرحبا وأهلا بابن بنت رسول الله ﷺ سيد شباب المسلمين. دابة لأبي عبد الله يركبها. فأتي ببرذون، فتحول عليه. ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: مرحبا بابن شيخ قريش وسيدهم وابن صديق هذه الأمة. دابة لأبي محمد يركبها. فأتي ببرذون فركبه. ثم طلع ابن عمر فقال: مرحبا وأهلا بصاحب رسول الله وابن الفاروق وسيد المسلمين، ودعا له بدابة فركبها. ثم طلع ابن الزبير فقال: مرحبا وأهلا بابن حواري رسول الله وابن الصديق وابن عمة رسول الله ﷺ، ودعا له بدابة فركبها، ثم أقبل يسير بينهم لا يسايره غيرهم حتى دخل مكة، ثم كانوا أول داخل وآخر خارج ليس في الأرض صباح إلا لهم فيه حباء وكرمة، ولا يعرض لهم بذكر شيء مما هو فيه حتى قضى نسكه وترحلت أثقاله وقرب مسيره إلى الشام وأنيخت رواحله، فأقبل بعض القوم على بعض فقالوا: أيها القوم لا تخدعوا إنه والله ما صنع هذا لحبكم ولا لكرامتكم ولا صنعه إلا لما يريد، فأعدوا له جوابا. اقبلوا على الحسين فقالوا: أنت يا أبا عبد الله. قال: وفيكم شيخ قريش وسيدها وهو أحق بالكلام. فقالوا: أنت يا أبا محمد – لعبد الرحمن بن أبي بكر – فقال: لست هناك، وفيكم صاحب رسول الله ﷺ وابن سيد المسلمين – يعنى ابن عمر – فقالوا لابن عمر: أنت ! فقال: لست بصاحبكم، ولكن ولوا الكلام ابن الزبير يكفكم. قالوا: أنت يا ابن الزبير. قال: نعم، إن اعطيتموني عهدكم ومواثيقكم أن لا تخالفوني كفيتكم الرجل. فقالوا: فلك ذلك. فخرج الإذن، فأذن لهم. فدخلوا فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لقد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، وصفحي عنكم، وحملي لما يكون منكم، ويريد ابن امير المؤمنين أخوكم وابن عمكم وأحسن الناس لكم رأيا. وإنما أردت أن تقدموه باسم الخلافة وتكونوا أنتم الذين تنزعون وتؤمرون وتحبون وتقسمون لا يدخل عليكم في شئ من ذلك.
فسكت القوم. فقال: ألا تجيبوني؟ فسكت القوم. فقال: ألا تجيبوني؟ فسكتوا: فأقبل على ابن الزبير فقال: هات يا ابن الزبير، فإنك لعمري صاحب خطبة القوم، فقال: نعم يا أمير المؤمنين أخيرك بين ثلاث خصال أيها أخذت فهي لك رغبة: قال: لله أبوك، أعرضهن: قال: إن شئت صنعت ما صنع رسول الله ﷺ، وإن شئت صنعت ما صنع أبو بكر فهو خير هذه الأمة بعد رسول الله ﷺ، وإن شئت صنعت ما صنع عمر فهو خير هذه الأمة بعد ابي بكر. قال: لله أبوك، ما صنعوا؟ قال: قبض رسول الله ﷺ فلم يستخلف أحدا، فارتضى المسلمون أبا بكر، فإن شئت أن تدع أمر هذه الأمة حتى يقضى الله فيه قضاءه فيختار المسلمون لأنفسهم. فقال: إيه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر، وإني لا آمن عليكم الاختلاف. قال: فاصنع كما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بنى أبيه فاستخلفه. قال: لله أبوك الثالثة؟ قال: تصنع ما صنع عمر، جعل الأمر شورى في ستة نفر من قريش ليس أحد منهم من ولد أبيه. قال: عندك غير هذا؟ قال: لا. قال: فأنتم؟ قالوا: ونحن أيضا. قال: أما لا، فإني أحببت ان أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر، وإن كان يقوم القائم منكم إلي فيكذبني على رءوس الأشهاد فأحتمل له ذلك. وإني قائم بمقالة، فإن صدقت فلي صدقي وإن كذبت فعلي كذبي. وإني أقسم بالله لكم لئن رد على إنسان منكم لا ترجع إليه كلمته حتى يسبق إلى رأسه. ثم دعا بصاحب حرسه فقال: أقم على كل رجل من هؤلاء رجلين من حرسك فإن ذهب رجل يرد على كلمة بصدق أو كذب فليضرباه بسيفهما.
ثم خرج وخرجوا معه، حتى رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا نستبد بأمر دونهم، ولا نقضي أمرا إلا عن مشورتهم. وإنهم ارتضوا وبايعوا ليزيد ابن أمير المؤمنين من بعده، فبايعوا باسم الله. فضربوا على يده، ثم جلس على راحلته وانصرف.
فلقيهم الناس فقالوا: زعمتم وزعمتم، فلما أرضيتم فعلتم قالوا: إنا والله ما فعلنا. قالوا: فما منعكم أن تردوا على الرجل إذ كذب؟ ثم بايع أهل المدينة والناس، ثم خرج إلى الشام.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: لسنا ننكر ولا تبلغ بنا الجهالة ولا لنا في الحق حمية جاهلية ولا ننطوي على غل لأحد أصحاب محمد ﷺ، بل نقول { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم }. إلا أنا نقول، إن معاوية ترك الأفضل في أن يجعلها شورى، وألا يخص بها أحدا من قرابته فكيف ولدا، وأن يقتدي بما أشار به عبد الله بن الزبير في الترك أو الفعل فعدل إلى ولاية ابنه وعقد له البيعة وبايعه الناس، وتخلف عنها من تخلف، فانعقدت البيعة شرعا، لأنها تنعقد بواحد وقيل باثنين.
فإن قيل: لمن فيه شروط الإمامة، قلنا: ليس السن من شروطها ولم يثبت أنه يقصر يزيد عنها.
[ فإن ] قيل، كان منها العدالة والعلم، ولم يكن يزيد عدلا ولا عالما. قلنا: وبأي شئ نعلم عدم علمه أو عدم عدالته؟ ولو كان مسلوبهما لذكر ذلك الثلاثة الفضلاء الذين أشاروا عليه بأن لا يفعل، وإنما رموا الأمر بعيب التحكيم، وأرادوا أن تكون شورى.
فإن قيل كان هنالك من هو أحق منه عدالة وعلما، منهم مائة وربما ألف. قلنا: إمامة المفضول – كما قدمنا – مسألة خلاف بين العلماء، كما ذكر العلماء في موضعه.
وقد حسم البخاري الباب، ونهج جادة الصواب، فروى في صحيحه ما يبطل جميع هذا المتقدم، وهو أن معاوية خطب وابن عمر حاضر في خطبته، فيما روى البخاري عن عكرمة بن خالد أن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونوساتها تنطف. قلت: قد كان في الأمر ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شيء. فقالت: « إلحق، فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة ». فلم تدعه حتى ذهب. فلما تفرق الناس خطب معاوية فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب ابن مسلمة فهلا اجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. فقال حبيب: حفظت وعصمت.
وروى البخاري أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده وقال: إنى سمعت رسول الله ﷺ يقول: « ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة » وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن نبايع رجلا على بيع الله ورسوله ثم ننصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بينى وبينه.
فانظروا معشر المسلمين إلى ما روى البخاري في الصحيح، وإلى ما سبق ذكرنا له في رواية بعضهم أن عبد الله بن عمر لم يبايع، وأن معاوية كذب وقال قد بايع وتقدم إلى حرسه بأمره بضرب عنقه إن كذبه. وهو قد قال في رواية البخاري: « وقد بايعناه على بيع الله ورسوله » وما بينهما من التعارض، وخذوا لأنفسكم بالأرجح في طلب السلامة، والخلاص بين الصحابة والتابعين. فلا تكونوا – ولم تشاهدوهم، وقد عصمكم الله من فتنتهم – ممن دخل بلسانه في دمائهم، فيلغ فيها ولوغ الكلب بقية الدم على الأرض بعد رفع الفريسة بلحمها، لم يلحق الكلب منها إلا بقية دم سقط على الأرض.
وروى الثبت العدل عن عبد الرحمن بن مهدي، عم سفيان عن محمد بن المنكدر قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد « إن كان خيرا رضينا، وإن كان شرا صبرنا ».
وثبت عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله ﷺ حين استخلف يزيد بن معاوية فقال: تقولون إن يزيد بن معاوية ليس بخير أمة محمد، لا أفقهها فيها فقها ولا أعظمها فيها شرفا. وأنا أقول ذلك. ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إلي من أن تفترق. أرأيتم بابا دخل فيه أمة محمد ووسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو كان دخل فيه؟ قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم لا أريق دم أخي ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم. ثم قال: قال رسول الله ﷺ « لا يأتيك من الحياء إلا خير ».
فهذه الأخبار الصحاح كلها تعطيك أن ابن عمر كان مسلما في أمر يزيد، وأنه بايع وعقد له والتزم ما التزم الناس، ودخل فيها دخل فيه المسلمون، وحرم على نفسه ومن إليه بعد ذلك أن يخرج على هذا أو ينقضه.
وظهر لك أن من قال إن معاوية كذب في قوله « بايع ابن عمر » ولم يبايع، وأن ابن عمر وأصحابه سئلوا فقالوا « لم نبايع » فقد كذب. وقد صدق البخاري في روايته قول معاوية في المنبر « إن ابن عمر قد بايع » بإقرار بن عمر بذلك وتسليمه له وتماديه عليه.
فأي الفريقين أحق بالصدق إن كنتم تعلمون؟ الفريق الذي فيه البخاري أم الذي فيه غيره؟
فخذوا لأنفسكم بالأحزم والأصح، أو اسكتوا عن الكل والله يتولى توفيقكم وحفظكم.
والصاحب الذي كنى عنه حميد بن عبد الرحمن هو ابن عمر والله أعلم. وإن كان غيره فقد أجمع رجلان عظيمان على هذه المقالة، وهي تعضد ما أصلناه لكم من أن ولاية المفضول نافذة وإن كان هنالك من هو أفضل منه إذ عقدت له. ولما في حلها – أو طلب الأفضل – من استباحة ما لا يباح، وتشتيت الكلمة، وتفريق أمر الأمة.
فإن قيل. كان يزيد خمارا. قلنا: لا يحل إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه؟ بل شهد العدل بعدالته. فروى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد، قال الليث: « توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا » فسماه الليث « أمير المؤمنين » بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا « توفي يزيد ».
فإن قيل: ولو لم يكن ليزيد إلا قتله للحسين بن علي. قلنا: يا أسفا على المصائب مرة، ويا أسفا علي مصيبة الحسين ألف مرة. وإن بوله يجري علي صدر النبي ﷺ ودمه يراق علي البوغاء ولا يحقن، يا لله ويا للمسلمين.
وإن أمثل ما روي فيه أن يزيد كتب إلي الوليد بن عتبة ينعي له معاوية ويأمره أن يأخذ له البيعة على أهل المدينة – وقد كانت تقدمت – فدعا مروان فأخبره فقال له: أرسل إلى الحسين بن علي وابن الزبير، فإن بايعوا وإلا فاضرب أعناقهم. قال: سبحان الله، تقتل الحسين بن علي وابن الزبير؟ قال: هو ما أقوله لك. فأرسل إليهما، فأتاه ابن الزبير، فنعي إليه معاوية وسأله البيعة، فقال: ومثلي يبايع هنا؟ ارق المنبر، وأنا ( أبايع ) مع الناس علانية. فوثب مروان وقال: اضرب عنقه، فإنه صاحب فتنة وشر. فقال [ ابن الزبير ]. فإنك لهنالك يا ابن الزرقاء؟ ( واستبا ). فقال الوليد: أخرجهما عني، وأرسل إلى الحسين ولم يكلمه بكلمة في شيء، وخرجا من عنده. وجعل الوليد عليهما الرصد. فلما دنا الصبح خرجا مسرعين إلى مكة فالتقيا بها فقال له ابن الزبير: ما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك؟ فوالله لو أن لي مثلهم لذهبت إليهم. فهذا ما صح.
وذكر المؤرخون أن كتب أهل الكوفة وردت على الحسين، وأنه أرسل مسلم بن عقيل - ابن عمه – إليهم ليأخذ عليهم البيعة وينظر هو في أتباعه، فهناه ابن عباس وأعلمه أنهم خذلوا أباه وأخاه، وأشار عليه ابن الزبير بالخروج فخرج، فلم يبلغ الكوفة إلا ومسلم ابن عقيل قد قتل وأسلمه من كان استدعاه. ويكفيك بهذا عظة لمن اتعظ. فتمادى واستمر غضبا للدين وقياما بالحق. ولكنه رضي الله عنه لم يقبل نصيحة أعلم أهل زمانه ابن عباس، وعدل عن رأي شيخ الصحابة ابن عمر وطلب الابتداء في الانتهاء والاستقامة من أهل الاعوجاج ونضارة الشبيبة في هشيم المشيخة، ليس حوله مثله ولا له من الأنصار من يرعى حقه ولا من يبذل نفسه دونه، فأردنا أن نطهر الأرض من خمر يزيد [28] فأرقنا دم الحسين، فجاءتنا مصيبة لا يجبرها سرور الدهر.
وما خرج إليه أحد إلا بتأويل ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر عن الدخول في الفتن. وأقواله في ذلك كثيرة: منها ما روى مسلم عن زياد بن علاقة عن عرفجة بن شريح قوله ﷺ « إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ». فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله. ولو أن عظيمها وابن عظيمها وشريفها وابن شريفها الحسين يسعه بيته أو ضيعته أو إبله – ولو جاء الخلق يطلبونه ليقوم بالحق، وفي جملتهم ابن عباس وابن عمر – لم يلتفت إليهم وحضره ما أنذر به النبي ﷺ وما قال في أخيه، ورأى أنها قد خرجت عن أخيه ومعه جيوش الأرض وكبار الخلق يطلبونه، فكيف ترجع إليه بأوباش الكوفة وكبار الصحابة ينهونه وينأون عنه؟ وما أدري في هذا إلا التسليم لقضاء الله والحزن على ابن بنت رسول الله ﷺ بقية الدهر. ولولا معرفة أشياخ وأعيان الأمة بأنه أمر صرفه الله عن أهل البيت وحال من الفتنة لا ينبغي لأحد أن يدخلها ما أسلموه أبدا.
وهذا أحمد بن حنبل – على تقشفه وعظيم منزلته في الدين وورعه – قد أدخل عن يزيد بن معاوية في كتاب الزهد أنه كان يقول في خطبته: « إذا مرض أحدكم مرضا فأشفى ثم تماثل فلينظر إلى أفضل عمل عنده فليلزمه ولينظر إلى أسوإ عمل عنده فليدعه. وهذا يدل على عظيم منزلته عنده حتى يدخله في جملة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين يقتدى بقولهم ويرعوى من وعظهم. ونعم، ما أدخله إلا في جملة الصحابة، قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين. فأين هذا من ذكر المؤرخين له في الخمر وأنواع الفجور، ألا تستحيون؟ وإذا سلبهم الله المروءة والحياء، ألا ترعوون أنتم وتزدجرون وتقتدون بالأحبار والرهبان من فضلاء الأمة، وترفضون الملحدة والمجان من المنتمين إلى الملة { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } والحمد لله رب العالمين.
وانظروا إلى ابن الزبير بعد ذلك وما دخل فيه من البيعة له بمكة، والأرض كلها عليه. وانظروا إلى ابن عباس وعقله وإقباله على نفسه. وانظروا إلى ابن عمر وسنه وتسليمه للدنيا ونبذة لها. ولو كان للقيام وجه لكان أولى بذلك ابن عباس، فإن ولدي أخيه عبيد الله قد ذكر أنهما قتلا ظلما. ولكن رأى بعقله أن دم عثمان لم يخلص إليه، فكيف بدم ولدي عبيد الله؟ وإن الأمر راهق قد خرجا عنه حفظا للأصل، وهو اجتماع أمر الأمة وحقن دمائها وائتلاف كلمتها. ودع الأمر يتولاه أسود مجدع حسبما أمر به صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه. وكل منهم عظيم القدر مجتهد، وفيما دخل فيه مصيب مأجور، والله فيه حكم قد أنفذه، وحكم في الآخرة قد أحكمه وفرغ منه. فاقدروا هذه الأمة مقاديرها، وانظروا بما قابلها ابن عباس وابن عمر فقابلوها، ولا تكونوا من السفهاء الذين يرسلون ألسنتهم وأقلامهم بما لا فائدة لهم فيه، ولا يغني من الله ولا من دنياهم شيئا عنهم. وانظروا إلى الأئمة الخيار وفقهاء الأمصار، هل أقبلوا على هذه الخرافات وتكلموا في مثل هذه الحماقات؟ بل علموا أنها عصبيات جاهلية وحمية باطلة لا تفيد إلا قطع الحبل بين الخلق وتشتيت الشمل واختلاف الأهواء – وقد كان ما كان، وقال الأخباريون ما قالوا، فإما سكوت وإما اقتداء بأهل العلم وطرح لسخافات المؤرخين والأدباء. والله يكمل علينا وعليكم النعماء برحمته.
نكتة
وعجبا لاستكبار الناس ولاية بني أمية وأول من عقد لهم الولاية رسول الله ﷺ، فإنه ولى يوم الفتح عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية مكة – حرم الله وخير بلاده – وهو فتى السن قد أبقل أو لم يبقل. واستكتب معاوية بن أبي سفيان أمينا على وحيه، ثم ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان – أخاه – الشام. وما زالوا بعد ذلك يتوقلون في سبيل المجد ويترقون في درج العز، حتى أنهتهم الأيام إلى منازل الكرام.
وقد روى الناس أحاديث فيهم لا أصل لها، منها حديث رؤية النبي ﷺ بني أمية ينزون على منبره كالقردة، فعز عليه، فأعطي ليلة القدر خيرا من ألف شهر يملكها بنو امية. ولو كان هذا صحيحا ما استفتح الحال بولايتهم، ولا مكن لهم في الأرض بأفضل بقاعها وهي مكة. وهذا أصل يجب أن تشد عليه اليد.
فإن قيل: أحدث معاوية في الإسلام الحكم بالباطل والقضاء بما لا يحل من استلحاق زياد. قلنا قد بينا في غير موضع أن استلحاق زياد إنما كان لأشياء صحيحة، وعمل مستقيم نبينه بعد ذكر أمثل ما ادعى فيه المدعون من الانحراف عن الاستقامة، إذ لا سبيل إلى تحصيل باطلهم، لأن خرق الباطل لا يرقع ولسانه اعظم منه فكيف به لا يقطع.
قالوا: كان زياد ينتسب إلى عبيد الثقفي من سمية جارية الحارث ابن كلدة، واشترى [ زياد ] عبيدا – أباه – بألف درهم فأعتقه.
قال أبو عثمان النهدي: فكنا نغبطه. واستعمله عمر على بعض صدقات البصرة، وقيل بل كتب لأبي موسى، فلما لم يقطع الشهادة مع الشهود على المغيرة جلدهم وعزله وقال له: ما عزلتك لخزية، ولكني كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك. ورووا أن عمر أرسله إلى اليمن في إصلاح فساد، فرجع وخطب خطبة لم يسمع مثلها. فقال عمرو بن العاص « أما والله لو كان هذا الغلام قرشيا لساق الناس بعصاه »، فقال أبو سفيان: والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه، فقال له علي: ومن؟ قال: أنا. قال: مهلا يا أبا سفيان. فقال أبو سفيان أبياتا من الشعر:
أما والله لولا خوف شخص *** يراني يا على من الأعادي
لأظهر أمره صخر بن حرب *** ولم تكن المقالة عن زياد
وقد طالت مخاتلتي ثقيفا *** وتركي فيهم ثمر الفؤاد
فذلك الذي حمل معاوية. واستعمله علي على فارس، وحمى وجبى وفتح وأصلح. وكاتبه معاوية يروم إفساده، فوجه [ زياد ] بكتابه إلى علي بشعر، فكتب إليه علي: « إني وليتك ما وليتك وأنت أهل لذلك عندي، ولن يدرك ما تريد بما أنت فيه إلا بالصبر واليقين. وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر، لا تستحق بها نسبا ولا ميراثا. وإن معاوية يأتي المؤمن من بين يديه ومن خلفه ». فلما قرأ زياد الكتاب قال: « شهد لي أبو حسن ورب الكعبة ». فذلك الذي جرأ زيادا ومعاوية بما صنعا ثم ادعاه معاوية سنة أربع وأربعين وزوج معاوية ابنته من ابنه محمد. وبلغ الخبر أبا بكرة – أخاه لأمه – فآلى يمينا ألا يكلمه ابدا، وقال « هذا زنّى أمه، وانتفى من ابيه. والله ما رأت سمية أبا سفيان قط، وكيف يفعل بأم حبيبة: أيراها فيهتك حرمة رسول الله، وإن حجبته فضحته ». فقال زياد: جزى الله أبا بكرة خيرا، فإنه لم يدع النصيحة في حال. وتكلم فيه الشعراء، ورووا عن سعيد بن المسيب أنه قال إنه قال: أول قضاء كان في الإسلام بالباطل استلحاق زياد.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: قد بينا في غير موضع هذا الخبر، وتكلمنا عليه بما يغني عن إعادته، ولكن لا بد في هذه الحالة من بيان المقصود منه فنقول: كل ما ذكرتم لا ننفيه ولا نثبته لأنه لا يحتاج إليه. والذي ندريه حقا ونقطع عليه أن زيادا من الصحابة بالمولد والرؤية، لا بالتفقه والمعرفة. وأما أبوه فما علمنا له أبا قبل دعوى معاوية على التحقيق، وإنما هي أقوال غائرة من المؤرخين. وأما شراؤه له فمراعاة للحضانة فإنه حضنه عند أمه إذ دخل عليه فيه شبهة بالحضانة إليه إن كان ذلك.
واما قولهم إن أبا عثمان [ النهدي ] غبطه بذلك فهو بعيد على أبي عثمان، فإنه ليس في أن يبتاع أحد حاضنه أو أباه فيعتقه من المزية بحيث يغبطه أبو عثمان وأمثاله، لأن هذه مرتبة يدركها الغني والفقير والشريف والوضيع، ولو بذل من المال ما يعظم قدره، فيدرأ به قدر مروءته في إهانة الكثير العظيم، في صلة الولى الحميم، وإنما ساقوا هذه الحكاية ليجعلوا له أبا، ويكون بمنزلة من انتفى من أبيه.
وأما استعمال عمر له فصحيح، وناهيك تزكية وشرفا ودينا.
وأما قولهم إن عمر عزله لأنه لم يشهد بباطل، بل روي أنه لما شهد أصحابه الثلاثة (وعمر يقول للمغيرة: ذهب ربعك، ذهب نصفك، ذهب ثلاثة أرباعك، فلما جاء زياد قال له: إنى أراك صبيح الوجه، وإنى لأرجو أن لا يفضح الله على يديك رجلا من أصحاب محمد ﷺ.
وأما خطبته التى ذكروا أنه عجب منها عمرو، فما كان عنده فضل علم ولا فصاحة يفوق بها عمرا فمن فوقه أو دونه. وقد أدخل له الشيخ المفتري خطبا ليست في الحد المذكور.
أما قولهم إن أبا سفيان اعترف به وقال شعرا فيه، فلا يرتاب ذو تحصيل في أن أبا سفيان لو اعترف به في حياة عمر لم يخف شيئا، لأن الحال لك يكن تخلو من أحد قسمين: إما أن يرى عمر إلاطته به) كما روي عنه في غيره فيمضي ذلك، أو يرد ذلك فلا يلزم أبا سفيان شيء باقتراف باقتراف ما كان في الجاهلية فذكرهم هذه الحكاية المخترعة الباردة المتهافتة الخارجة عن حد الدين والتحصيل لا معنى لها.
وأما تولية علي له فتزكية.
وأما بعث معاوية إليه ليكون معه فصحيح في الجملة. وأما تفصيل ما كتب معاوية، أو كتب زياد به إلى علي، أو جاوب به على زيادا، فهذا كله مصنوع.
وأما قول علي « إنما كانت من أبي سفيان فلتة [ زمن عمر ] لا تستحق بها نسبا » فلو صح لكان ذلك شهادة، كما روي عن زياد ولم يكن ذلك بمبطل لما فعل معاوية، لأنها مسالة اجتهاد بين العلماء: فرأى علي شيئا، ورأى معاوية وغيره غيره.
وأما نكتة الكلام وهو القول في استلحاق معاوية زيادا وأخذ الناس عليه في ذلك، فأي أخذ عليه فيه إن كان سمع ذلك من أبيه؟ وأي عار إلى أبي سفيان في أن يليط بنفسه ولد زنا كان في الجاهلية. فمعلوم أن سمية لم تكن لأبي سفيان، كما لم يكن وليدة زمعة لعتبة، لكن كان لعتبة منازع تعين القضاء له، ولم يكن لمعاوية منازع في زياد.
اللهم إن هاهنا نكتة اختلف العلماء فيها، وهي أن الأخ إذا استلحق أخا يقول هو ابن ابي ولم يكن له منازع بل كان وحده، فقال مالك: يرث ولا يثبت النسب. وقال الشافعي – في أحد القولين – يثبت النسب ويأخذ المال، هذا إذ كان المقر به غير معروف النسب. واحتج الشافعي بقول النبي ﷺ « هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر » فقضى بكونه للفراش وبإثبات النسب. قلنا هذا جهل عظيم، وذلك أن قوله إن النبي ﷺ قضى بكونه للفراش صحيح، وأما قوله بثبوت النسب فباطل، لأن عبدا ادعى سببين: أحدهما الأخوة والثاني ولادة الفراش. فلو قال النبي ﷺ: هو أخوك، الولد للفراش. لكان إثباتا للحكم وذكرا للعلة. بيد أن النبي ﷺ عدل عن الإخوة ولم يتعرض لها، وأعرض عن النسب ولم يصرح به، وإنما في الصحيح في لفظ « هو أخوك » وفي آخر « هو لك » معناه فأنت أعلم به. وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف.
فالحارث بن كلدة لم يدع زيادا ولا كان إليه منسوبا، وإنما كان ابن أمته ولد على فراشه – أي في داره – فكل من ادعاه فهو له، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز، بل فعل فيه الحق على مذهب مالك.
فإن قيل: فلم أنكر عليه الصحابة؟
قلنا: لأنها مسألة اجتهاد، فمن رأى أن النسب لا يلحق بالوارث الواحد أنكر ذلك وعظمه.
فإن قيل: ولم لعنوه، وكانوا يحتجون بقول النبي ﷺ « ملعون من انتسب لغير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه »؟
قلنا: إنما لعنه من لعنه لوجهين: أحدهما لأنه أثبت نسبه من هذا الطريق، ومن لم ير لعنة لغيره. وكان زياد أهلا أن يلعن – عندهم – لما حدث بعد استلحاق معاوية.
فإن قيل: جعل النبي ﷺ للزنا حرمة، ورتب عليها حكما حين قال « احتجبي منه يا سودة »، وهذا يدل على أن الزنا يتعلق به من حرمة الوطء ما يتعلق بالنكاح الصحيح. هكذا قال الكوفيون. ومالك في رواية ابن القاسم يساعدهم على المسألة ولا يساعدهم على دليلها من هذا الوجه، وقد بيناها في كتاب النكاح. وقال الشافعي: العذر في أمر النبي ﷺ لسودة بالاحتجاب مع ثبوت نسبه من زمعة وصحة أخوته لها بدعوى عبد أن ذلك تعظيم لحرمة أزواج النبي ﷺ لأنهن لم يكن كأحد من النساء في شرفهن وفضلهن.
قلنا: لو كان أخاها بنسب ثابت صحيح كما قلتم، ويكون قول النبي ﷺ « الولد للفراش » تحقيقا للنسب، لما منع النبي ﷺ سودة منه، كما لم يمنع عائشة من الرجل الذي قالت: هو أخي في الرضاعة، وإنما قال « انظرن من إخوانكن ».
وأما ما روي عن سعيد بن المسيب، فأخبر عن مذهبه في أن هذا الاستلحق ليس بصحيح، وكذلك رأى غيره من الصحابة والتابعين. وقد صارت المسألة إلى الخلاف بين الأمة وفقهاء الأمصار، فخرجت من حد الانتقاد إلى حد الاعتقاد. وقد صرح مالك في كتاب الإسلام وهو الموطأ بنسبه فقال في دولة بني العباس « زياد بن أبي سفيان »، ولم يقل كما يقول المجادل « زياد بن أبيه ». هذا على أنه لا يرى النسب يثبت بقول واحد، ولكن في ذلك فقه بديع لم يفطن له أحد، وهو أنها لما كانت مسألة خلاف، ونفذ الحكم بأحد الوجهين، لم يكن لها رجوع، فإن حكم القاضي في مسائل الخلاف بأحد القولين يمضيها ويرفع الخلاف فيها. والله أعلم.
أما روايتهم أن عمر قال « كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس » فهذه زيادة ليس لها أصل، من ناقص عقل. وأي عقل كان لزياد يزيد على الناس في أيام عمر، وغلام كل واحد من الصحابة كان أعقل من زياد وأعلم منه. ولهذا كل من كمل عقله أكثر من الآخر فهو أولى أن يختلط مع الناس. ويقولون كان داهية، وهي كلمة واهية. الدهاء والأرب هو المعروف بالمعاني والاستدلال على العواقب بالمبادئ. وكل أحد الصحابة والتابعين فوق زياد. وتلك الروايات التي يروي المؤرخون – من كذبهم – في حيل الحرب والفتك بالناس، كل أحد اليوم يقدر على مثلها وأكثر منها، والحيلة إنما تكون بديعة وتثنى وتروى إذا وافقت الدين، وأما كل حكاية تخالف الدين فليس في روايتها ولا في رواتها خير ولا عقل. وكل الناس كما قدمنا – وخذ من ولاية بني أمية خاصة – أعقل من زياد وأفصح منه. فلا تلتفوا إلي ما روي من الأباطيل.
نكتة
الولايات والعزلات لها معان وحقائق لا يعلمها كثير من الناس. لقد علمت أن الرسول ﷺ مات على زهاء اثني عشر ألفا من الصحابة معلومين. منهم ألفان أو نحوهما مشاهير في الجلالة، ولى منهم أبو بكر سعدا وأبا عبيدة ويزيد وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ونفرا غيرهم فوقهم، وولى أنس بن مالك ابن عشرين سنه علي البحرين اقتداء بالنبي ﷺ في عتاب، ومتى كان استوفى المشيخة حتى يأخذ الشبان. وولى عمر أيضا كذلك، وبادر بعزل خالد. وذلك كله لفقه عظيم ومعارف بديعة بيانها في موضعها من كتب الإمامة والسياسة من الأصول، فخذوا في في غير هذا، فليس هذا الباب مما تلوكه أشداق أهل الآداب.
وأما ما روي عن معاوية أنه استدعى شهودا فشهد السلولي وسواه، فسل من ألحق ما روى عن السلولي، فإنه لم يكن قط. وأسعد بإسقاط ما روي في القصة سعيد أو سعد. وأما كلام أبي بكرة – أخيه لأمه – فيه فغير ضائر له، لأن ذلك رأي أبي بكرة واجتهاده. وأما قولهم فيها عن أبي بكرة أنه زنّى أمه، فلو كان ذلك صحيحا لم يضر أمه ما جرى في الجاهلية في الدين، فإن الله عفا عن أهل الجاهلية كلها بالإسلام وأسقط الإثم والعار منه، فلا يذكره إلا جاهل به.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: والناس إذا لم يجدوا عيبا لأحد وغلبهم الحسد عليه له أحدثوا له عيوبا. فاقبلوا الوصية ولا تلتفتوا إلا إلى ما صح من الأخبار، واجتنبوا – كما ذكرت لكم – أهل التواريخ، فإنهم ذكروا عن السلف أخبارا صحيحة يسيرة ليتوسلوا بذلك إلى رواية الأباطيل، فيقذفوا – كما قدمنا - في قلوب الناس ما لا يرضاه الله تعالى، وليحتقروا السلف ويهونوا الدين، وهو أعز من ذلك، وهم أكرم منا، فرضي الله عن جميعهم.
ومن نظر إلى أفعال الصحابة تبين منها بطلان هذه الهتوك التى يختلفها أهل التواريخ فيدسونها في قلوب الضعفاء، وهذا زياد لما أحس المنية استخلف سمرة بن جندب من كبار الصحابة فقبل خلافته. وكيف يظن به على منزلته أنه يقبل ولاية ظالم لغير رشده، وهو على ما هو عليه من الصحبة، وذلك من غير إكراه ولا تقية؟ إن هذا لهو الدليل المبين. فمع من تحبون أن تكونوا: مع سمرة بن جندب أو مع المسعودي والمبرد وابن قتيبة ونظرائهم؟ وهذا غاية في البيان.
قاصمة
كانت الجاهلية مبنية على العصبية متعاملة بينها بالحمية، فلما جاء الإسلام بالحق وأظهر الله منته على الخلق، قال سبحانه { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } [29]، وقال لنبيه: { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم } [30]، فكانت بركة النبي ﷺ تجمعهم، وتجمع شملهم، وتصلح قلوبهم، وتمحو ضغائنهم.
واستأثر الله برسوله ﷺ، ونفرت النفوس وتماسكت الظواهر منجرة مادام الميزان قائما. فلما رفع الميزان – كما تقدم ذكره في الحديث – أخذ الله القلوب عن الالفة، ونشر جناحا من التقاطع، حتى سوى جناحين بقتل عثمان، فطار في الآفاق، واتصل الهرج إلى يوم المساق. وصارت الخلائق عزين، في كل واد من العصبية يهيمون: فمنهم بكرية، وعمرية وعثمانية وعلوية وعباسية. كل تزعم أن الحق معها وفي صاحبها، والباقي ظلوم غشوم مقتر من الخير عديم. وليس ذلك بمذهب ولا فيه مقالة، وإنما هي حماقات وجهالات أو دسائس للضلالات، حتى تضمحل الشريعة، وتهزأ الملحدة من الملة، ويلهو بهم الشيطان ويلعب، وقد سار بهم في غير مسير ولا مذهب.
قالت البكرية: أبو بكر نص عليه رسول الله ﷺ في الصلاة، ورضيته الأمة للدنيا، وكان عند النبي ﷺ بتلك المنزلة العليا والمحبة الخالصة. وولي فعدل واختار فأجاد، إلا أنه أوهم في عمر فإنه أمره غليظ وفظاظته غلبت. وذكروا معايب. وأما عثمان فلم يخف ما عمل. وكذلك علي. وأما العباس فغير مذكور.
قالت العمرية: أما أبو بكر ففاضل ضعيف. وعمر إمام عدل قوي بمدح النبي ﷺ له في حديث الرؤيا والدلو والعبقري كما تقدم. وأما عثمان فخارج عن الطريق: ما اختار واليا، ولا وفى أحدا حقا، ولا كف أقاربه، ولا اتبع سنن من كان قبله. أما علي فجرى على الدماء. لقد سمعت في مجالس أن ابن جريج كان يقدم عمر على أبي بكر. وسمعت الطرطوشي يقول: لو قال أحد بتقديم عمر لتبعته.
وقالت العثمانية: عثمان له السوابق المتقدمة، والفضائل والفواضل في الذات والمال، وقتل مظلوما.
وقالت العلوية: علي ابن عمه وصهره وأبو سبطي النبي ﷺ وولد النبي ﷺ حضانة.
وقالت العباسية: هو أبو النبي ﷺ وأولادهم بالتقديم بعده. وطولوا في ذلك من الكلام ما لا معنى لذكره لدناءته. ورووا أحاديث لا يحل لنا أن نذكرها لعظيم الافتراء فيها ودناءة رواتها.
واكثر الملحدة على التعليق بأهل البيت وتقدمة علي على جميع الخلق. حتى إن الرافضة انقسمت إلى عشرين فرقة، أعظمهم باسا من يقول إن عليا هو الله، الغرابية يقولون إنه رسول الله لكن جبريل عدل بالرسالة عنه إلى محمد حمية منه معه …. في كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف، فأما دفئ المناظرة فلا يؤثر فيه.
عاصمة
إنما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق، وخاصة من المفسرين والمؤرخين وأهل الآداب، فإنهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصرين، فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث، ولا تسمعوا لمؤرخ كلاما إلا للطبري، وغير ذلك هو الموت الأحمر والداء الأكبر. فإن ينشئون أحاديث فيها استحقار الصحابة والسلف والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا وعن الحق إلى الهوى. فإن قاطعتم أهل الباطل واقتصرتم على رواية العدول، سلمتم من هذه الحبائل. ولو تطووا كشحا على هذه الغوائل ومن أشد شيء على الناس جاهل عاقل أو مبتدع محتال. فأما الجاهل فهو ابن قتيبة، فلم يبق ولم يذر للصحابة رسما في كتاب الإمامة والسياسة، إن صح عنه جميع ما فيه، وكالمبرد في كتابه الأدبي. وأين عقله من عقل ثعلب الإمام المتقدم في أماليه، فإن ساقها بطريقة أدبية سالمة من الطعن على أفاضل الأمة.
وأما المتدع المحتال فالمسعودي، فإنه يأتي منه متاخمة الإلحاد فيا روى من ذلك، وأما البدعة فلا شك فيه. فإذا صنتم أسماعكم وأبصاركم عن مطالعة الباطل، ولم تسمعوا في خليفة مما ينسب إليه ما لا يليق ويذكر [ عنه ] ما لا يجوز نقله، كنتم على منهج السلف سائرين، وعن سبيل الباطل ناكبين.
فهذا مالك رضي الله عنه قد اجتمع بقضاء عبد الملك بن مروان في موطإه في جملة قواعد الشريعة.
وقال في روايته: « عن زياد بن أبي سفيان ». فنسبه إليه وقد علم قصته، ولو كان عنده ما يقول العوام حقا لما رضي أن ينسبه ولا ذكره في كتابه أسسه للإسلام، وقد جمع ذلك في أيام بني العباس والدولة لهم والحكم بأيديهم فما غيروا عليه ولا أنكروا ذلك منه لفضل علومهم ومعرفتهم بأن مسألة زياد مسألة قد اختلف الناس فيها فمنهم من جوزها ومنهم من منعها، فلم يكن لاعتراضهم إليها سبيل.
وكذلك أعجبهم – حين قرأ الخليفة على مالك الموطأ – ذكر عبد الملك بن مروان فيه وإذكاره بقضائه، لأنه إذا احتج العلماء بقضائه فسيحتج بقضائه أيضا مثله، وإذا طعن فيه طعن فيه بمثله.
وأخرج البخاري عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان كتب: « إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله، ما استطعت، وإن بني قد أقروا بمثل ذلك ».
وهذا المأمون كان يقول بخلق القرآن، وكذلك الواثق، وأظهروا بدعتهم، وصارت مسألة معلومة إذا ابتدع القاضي أو الإمام هل تصح ولايته وتنفذ أحكامه أم هي مردودة؟ وهي مسألة معروفة. وهذا أشد من برودات ذكرها أصحاب التواريخ من أن فلانا الخليفة شرب الخمر أو غنى أو فسق أو زنى، فإن هذا القول في القرآن بدعة أو كفر – على اختلاف العلماء فيه – قد اشتهروا به، وهذه المعاصي لم يتظاهروا بها إن كانوا فعلوها، فكيف يثبت ذلك عليهم بأقوال المغنين والبراد من المؤرخين [ الذين ] قصدوا بذكر ذلك عنهم تسهيل المعاصي على الناس، وليقولوا إذ كان خلفاؤنا يفعلون هذا فما يستبعد ذلك منا. وساعدهم الرؤساء على إشاعة هذه الكتب وقراءتها لرغبتهم في مثل أفعالهم حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا، وحتى سمحوا للجاحظ ان تقرا كتبه في المساجد وفيها من الباطل والكذب والمناكير ونسبة الأنبياء إلى أنهم ولدوا لغير رشدة كما قال في إسحاق ﷺ في كتاب الضلال والتضليل، وكما مكنوا من قراءة كتب الفلاسفة في إنكار الصانع وإبطال الشرائع لما لوزراتهم وخواصهم في ذلك من الأغراض الفاسدة الباطلة، فإن زل فقيه أو أساء العبارة عالم: يكن ما أساء النار في رأس كبكبا.
وبالوقوف على هذه الفصول تحسن نياتكم، وتسلم عن التغير قلوبكم على من سبق.
وقد بينت لكم أنكم لا تقبلون على أنفسكم في دينار، بل في درهم، إلا عدلا بريئا من التهم، سليما من الشهوة. فكيف تقبلون في أحوال السلف وما جرى بين الأوائل ممن ليس له مرتبة في الدين، فكيف في العدالة!
ورحم الله عمر بن عبد العزيز حيث قال وقد تكلموا في الذي جرى بين الصحابة: { تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعلمون} [31].
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
هامش
[ البقرة: 134 ]
============================
آل عمران:144
في سورة الحشر: للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدروهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون
( التوبة:119)
سورة النور: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }
للسيوطي وغيره كتب تذكر أول من سبق إلى شيء من الأعمال الحميدة، فيقولون مثلا كان عثمان أول من هاجر في سبيل الله إلى الحبشة
زعم أصحاب الفتنة أن عليا وطلحة والزبير دعوهم للثورة على عثمان بدعوى أنه غير سنة الله
طلحة بن عبيد الله
الطعن بالألة أي الحربة العريضة النصل
مسند أحمد وصحيح البخاري
صحيح البخاري
صحيح البخاري
في كتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم خبر مرسل رواه شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف عن أبيه قال: قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر " ما هذا الحديث عن رسول الله ﷺ ". قال: وأحسبه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات. وقد نبه ابن حزم على أنه مرسل ولا يجوز الاحتجاج به، وليس في الخبر ذكر السجن.
قال ابن تيمية في منهاج السنة [ 3/196]: وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه ( أي في نفي النبي ﷺ الحكم ) وقالوا " ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح، ولا لها سند يعرف به أمرها " ثم قال " لم تكن الطلقاء تسكن المدينة، فإن كان طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة، وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم وقالوا: هو ذهب باختياره... وإذا كان النبي ﷺ قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمن، فإن هذا لا يعرف في شئ من الذنوب، ولم تأت الشريعة بذنب يبقي صاحبه منفيا دائما... وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقبل ﷺ شفاعته فيه وبايعه، فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم، وقد رووا أن عثمان سأله أن يرده فأذن له في ذلك، ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة الإسناد، وأما قصة الحكم فإنما ذكرت مرسلة، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه، فلم يكن هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان، والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي ﷺ له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعته له عنه وتقديم الصحابة له في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله ﷺ مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا تعرف حقيقته...
أم أبيه أروى بنت كريز أمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي ﷺ. افتتح خراسان كلها وأطراف فارس وسجستان وكرمان حتى بلغ أعمال غزنة، وقضى على يزدجرد ابن شهريار آخر ملوك فارس
هو أخوه لأمه أروى بنت كريز، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم.
ممن روى عنه من التابعين زين العابدين علي بن الحسن. ذكره ابن تيمية في منهاج السنة وابن حجر في الإصابة
[ الحجرات 6]
أي تقوى
إمارة علي وطلب قتلة عثمان
( النساء: 114 )
[ سورة الحجرات: 9 ]
[ الحجرات: 10 ]
( الزمر: 46 )
( النور: 255 )
( التوبة: 40 )
( سورة النور: 55 )
( البقرة: 251 )
أي بزعمهم
[ آل عمران: 103 ]
[ الأنفال: 63 ]
=============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب : أخبار الحمقى والمغفلين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي

  كتاب : أخبار الحمقى والمغفلين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي أخبار الحمقى والمغفلين مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ ...